الأحد، 2 يونيو 2013

شكراً على تدخلك في حياتي

يقول: درستُ في الخارج أنا وصديقي، قررنا أن نتزوج من ذلك البلد الأجنبي حيث أَحبّ كل منا زميلته في الدراسة، ما إن عدت للوطن وأخبرت أهلي برغبتي هذه حتى شنّوا الحرب علي، شعرت بالظلم والقهر واستسلمت لضغوطاتهم فتخليت عمن أحبها قلبي، أما صديقي فقد تزوج فعلاً من ذلك البلد وحقق ماكنت أتمنى تحقيقه.
 
ومرت السنوات، تزوجت فيها فتاة من بلدي برضا أهلي وأصبحت أباً لأبناءٍ أكبرهم اليوم على أعتاب المرحلة الجامعية، حاولت أن أطوي تلك الصفحة من حياتي بكل ما فيها من ألم إلا أن الجرح لم يلتئم بالكليّة، حتى أتى اليوم الذي التقيت فيه بصديقي القديم فكانت المفاجأة.
 
نظر لي وفي عينيه ألف كلمة، سألته عن أخباره فتنهد بعمق وقال: من أين أبدأ؟ من أبنائي الصغار الذين لايتحدثون إلا لغة والدتهم، أم من ابني الأوسط الذي أخجل من الحديث عنه، أم من مصيبتي الكبرى ابنتي البكر التي ورثت تمردي وعنادي، أسميتها باسم والدتي فغيرته ليلائم ديانة والدتها وهربت مع صديقها الذي وشمت اسمه على جسدها كما هربتُ أنا من جلدي قبلها بعشرين عاماً فتزوجت أمها في يومٍ أتمنى الآن لو لم تشرق علي شمسه.
 
عدت إلى المنزل ذلك اليوم بخواء غريب، اختفى الغضب الذي حملته في داخلي عمراً،اختفت الغبطة التي كنت أشعر بها نحو صديقي، اختفى الوهم الذي أَثقَلتُ كتفي بحمله، ما أجمل الواقع، أي امتنان أشعر به الآن للأهل الذين نجحوا في منعي من اتخاذ ذلك القرار، أي راحة تسكنني الآن في بيتي حيث زوجتي الصالحة وأبنائي، كلهم يتحدثون لغة أفهمها، لا أعني هنا لهجة الوطن الجميلة فحسب، وإنما لغة من نوع آخر.. أفهمه.
 
قصة هذا الرجل أعادتني للمواقف التي منعني فيها والداي مما كنت أريد، تذكرت بكائي المرير وأنا طفلة عندما منعتني أمي من المبيت لدى الجيران رغم أن أمهات صديقاتي يسمحن بذلك، تذكرت حزني الشديد حين أجبرني أبي على الاستمرار في الجامعة بعد أن قررت الانسحاب في لحظة تهوّر، وتذكرت الكثير.
 
يتدخل الأهل أحياناً بدافع الحب ليمنعونا من إيذاء أنفسنا وإن لم نقدّر ذلك لصغر السن وقلة الخبرة حيث لا نرى الحياة كما تراها أعينهم الناضجة، فكما يُجبر الأهل أطفالهم على حقن التطعيمات مهما زلزل بكاؤهم أركان المستشفى؛ يستمرون على ذلك طوال العمر لاسيما في المجتمع الشرقي الذي يقدّر تضحياتهم ويحض على برّهم، لا أنكر أن بعض الأهل قد يظلمون أبناءهم ويسيئون الحكم على الأمور لكنّي أتحدث في هذا المقام عن العقلاء منهم.
 
الأهل الصالحون لايهمهم بكاء الطفل الذي يريد تناول ماسيضره، فصحّته أثمن من دموعه التي ستجف بعد حين، الأهل الصالحون لايهمهم صراخ الطفلة التي لم يسُمح لها باستخدام الأجهزة الالكترونية طوال اليوم، فعيناها أهم من رضاها، الأهل الصالحون لن يسمحوا لابنهم الشاب بتدمير مستقبله بقرار اتخذه في لحظة طيش.
 
ويظل تدخلّهم في حياة أبنائهم سافراً و رائعاً لايخضع لقوانين البشر ولايعترف بالخصوصية، تحرّكه أقوى الدوافع على الإطلاق: حب غير مشروط، فلاأحد سيحب أبناءهم بقدرهم، ولا هم يطالبون بحب مقابل حب، هدفهم الأوحد أن نكون بخير، غياب المصلحة الدنيوية أمر مذهل، اللهم حرّم أجسادهم على النار.
 
الراية القطرية - الاثنين 3/6/2013 م
 
 

الأحد، 26 مايو 2013

لا تسمح لشيء أن يقتل كل شيء

سألته: لو عاد بك الزمن إلى الوراء أي خطأ كنت ستمنع نفسك من ارتكابه؟ فأجاب بلا تردد: ترك الجامعة، ففي عامي الدراسي الثاني أساء لي الأستاذ الجامعي بكلمة جعلتني أتشاجر معه وأقرر بعدها بتهور أنني قد اكتفيت من الدراسة وسأتجه للعمل، أعلم اليوم أن ذلك كان أغبى قراراتي على الإطلاق، وددت لو أن أحداً أقنعني بالعدول عنه.
 
استوقفتني تغريدة للشاعر فهد المنخس يقول فيها "لا تسمح لشيء أن يقتل كل شيء"، تكون ردود أفعال البشر أحياناً فادحة، يحرمون أنفسهم من كل شيء لأن شيئاً واحداً فقط قد خذلهم، لا تنفض يدك من الأمر برمته لمجرد أن أحد تفاصيله لا يعجبك، فهذا من نقص الحكمة ومن سوء تقدير المواقف، إن وجدت في نفسك شيئاً من ذلك فراقبها وامنعها من أن تمارس هذا الظلم عليك، وفي هذا السياق ثمة قاعدة تقول "ما لا يُدرَك كُلّه لا يُترَك جُلّه".
 
حقاً لا تسمح لشيء أن يقتل كل شيء، من خانك لم تقتل خيانته فرص الحب الأخرى التي ربما يكون أحدها أمام عينيك، الصديق الذي خذلك لم يلغ الصداقة التي مازال الكثيرون يستمتعون بدفئها، الموظف الذي آذاك لا يبرر أن تترك وظيفتك الحالية بكل مميزاتها، الوطن الذي ظُلِمت فيه لا يعني أن تنفض يديك منه وتهاجر لاهثاً خلف هوية لن تجدها في أي مكان آخر.
 
الأمر ذاته ينطبق على العلاقات الإنسانية، فمن كره من زوجته خُلقاً رضي منها آخر، لكن الكثيرين سمحوا لعيب واحد في الشخص أن ينسف كل مميزاته، لا أنكر أن بعض العيوب لا تطاق، لكن ثمة مميزات تجعلنا نتنازل عن تمسكنا بصفات اخرى، وفي هذا السياق يقول الإمام الشافعي: تَسَتّر بالسخاء فكل عيبٍ.. يغطّيه كما قيل السخاء.
 
العيش في جلباب الأمس ليس السبيل الأمثل لنمضي في هذه الحياة، علمني الوجع أن الكمال في الجنة وأن علينا أن نتأقلم مع نقص الدنيا ،هذه دعوة لمداواة الجروح قدر الإمكان كي لا تزحف آثارها إلى أبعاد حياتنا الأخرى، فالحياة أكبر من أن نختزلها في حدث واحد، كالبحر الذي مهما طفت على سطحه بعض الوريقات يظل عميقاً في أحشائه الدُّر كامنٌ، إنك حين تعطي الموقف أكبر من حجمه تتضاءل قيمتك كإنسان في مواجهته وهذا من الضعف، ولا مكان هنا للضعفاء.
 
 
الراية القطرية -  الاثنين 27/5/2013 م

الاثنين، 20 مايو 2013

لاتسافر مع هؤلاء

يعود صديقك من السفر ليُحدّثك عن تفاصيل رحلته، تتفاجأ بأنه لا يتحدّث عن الدولة التي زارها بقدر حديثه عن رفيق السفر الذي ربّما كان السبب الرئيسي في نجاح أو فشل الرحلة بأكملها، يُخبرنا الناس بعد عودتهم من السفر بقصصهم مع رفقائهم بحماس شديد أو بندم شديد، وقد قيل: الرفيق قبل الطريق، لذا فلا تُسافر مع هؤلاء ما لم يكونوا من الأهل المقرّبين، أوما لم تكن مثلهم في هذه الصفات:
 
1- الذي لا يلتزم بالوقت: يقال إن من لا يلتزم بالوقت لا يحترم الآخرين، لن يعتذر إن رآك تنتظره وحيدًا في بهو الفندق، ستجد نفسك قد أضعت الكثير من وقت الرحلة في التذمّر من بروده وعدم مراعاته للمواعيد التي تتفقان عليها، ستحترق قهرًا في انتظاره بالساعات ليُطلّ أخيرًا متسائلاً باستنكار عجيب: "ألم تطلب منهم بعد أن يحضروا لنا السيارة؟ أسرع واطلبها قبل أن نتأخّر بسببك!" المخيف في الأمر أنه لم يكن يمزح.
 
2- البخيل: اعلم أنك ستضطرّ لدفع معظم النفقات، فهو سيدرس بعناية كيفيّة التنصّل من المساهمة في أيّ خطر يمسّ جيبه، إن تَكَفّل بنفقة سيارة الأجرة سيدّعي بعد الوصول لوجهتكما أنه تفاجأ بعدم وجود فكّة لديه، إن تطوّع لدفع ثمن شيء سيكتشف اختفاء محفظته في ظروف غامضة.
 
3- ضعيف الدين: إن كنت متديّنًا ستتعارض اهتماماتكما بشكل صارخ، لن يُرحّب باللهو البريء المقتصرعلى استكشاف الطبيعة وإنّما سيسعى إلى استكشاف كل ماهو مشبوه، ستتفاجأ به مخمورًا وربّما اضطررت للاعتناء به حتى يصحو من سكرته قبل أن يفضحكما، ستكره أن يراك أحد معه فتُتّهم بما فيه، إن كنتِ فتاة ملتزمة فلن يسرّك تبرّجها، وربّما استَغَلّت حسن سمعتك لتتمكّن من إقناع أهلها بالخروج معك كي تلهو بمقابلة الرجال حتى أثناء وجودك معها وإن لم تعلمين.
 
4- المزاجي: مهما كان الجو في الخارج جميلاً لا بدّ أن يُعكّر مزاجه المتقلب صفو الجو بينكما، يضحك معك اليوم وتتفاجأ به في اليوم التالي عابسًا ساخطًا دون مبرّر، يتحوّل مزاجه الحسن إلى نقيضه بمقدار 180 درجة بسبب موقف تافه عابر، ستجد نفسك ملزمًا بتحمّل ثقل دمه وسوء أدبه مع الآخرين حين يُملي عليه المزاج أوامره فيُلبّي النداء كأنّه مسيّر لا حول له ولا قوّة.
 
5- كل شخص فيه صفة تكرهها: وهذا الأمر يختلف باختلاف شخصيّتك وقدرتك على تحمّل المزعجين، إن كنت تكره الثرثرة مثلاً فلا تُسافر مع ثرثار لا يُمهلك ساعة يُريح فيها فمه لتتمكّن من النوم في الطائرة، إن كنت محبًّا للنظافة والترتيب فلا تُسافر مع فوضوي يتسبّب في ضياع الأشياء ولا يُفكّر في من سيستخدم دورة المياه بعده، وهكذا.
 
كتبت حديث هذا الاثنين بوحي من قصص رحلات الأقارب والأصدقاء، قد ترى أنه لا يخلو من مبالغات لكن العكس هو الصحيح، فقد امتنعت عن ذكر بعض الأمثلة لاستعصاء تصديق القرّاء لها، فقصص العائدين من السفر غريبة عجيبة، لأن الناس في السفر يُظهرون حقيقتهم بشكل صارخ، ولذلك فلعلّ الصنف السادس من الأشخاص الذين أنصح ألاّ تُسافر معهم كذلك هم: الذين لم تعرفهم بعد حقّ المعرفة، فصدمتك بهم قد تفوق كل تصوّر.
 
الراية القطرية - الاثنين 20/5/2013 م
 
 

الأحد، 21 أبريل 2013

مالنا غيرك

 
 
تستوقفني مراراً جملة "مالنا غيرك" بصوت محمد عبده في رائعة د.عائض القرني: لا إله إلا الله، رغم أني استمعت لهذه الأنشودة في مواقف مختلفة إلا أن وقعها على مسمعي يختلف في كل مرة، هي تحفة فنية إن استمعت لها في سيارة في طريق فسيح ماداً ناظريك للأفق البعيد مستمتعاً بما حولك من خضرة أو صحراء لأضافت إلى سعادتك أضعافها، وإن أنصت لها في زاوية مظلمة بصدر فاض هماً لابتلّت وجنتيك رأفة ورحمة.
 
بما أن القصيدة أعظم من أن تُلخص في مقال متواضع حيث رسم القرني حروفها بخلاصة علمه الغزير وتحدى الشعراء بثقة في مجاراتها؛ فقد آثرت أن أتحدث عن كلمتيّ "مالنا غيرك" بمعنى: ليس لنا سواك، وهما أصدق تعبير عن حال الأمة التي لن تجد العزة بغير الإسلام، "مالنا غيرك" بعد أن تكالبت علينا الأمم فتداعت علينا كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
 
كما أن "مالنا غيرك" هي أبلغ ما يقال على لسان الأفراد باختلاف أوضاعهم، كلنا وكل شيء في حاجة ماسة لله، يظل الإنسان يبحث عن أسباب متناسياً مسبب الأسباب ربه ورب كل شيء، لعل التعلق بالأسباب أحد أكثر أمراض العصر الحديث انتشاراً، يسعى أحدهم لتحقيق حلم الوظيفة فيطرق كل الأبواب وينسى أن يضبط المنبه على الثلث الأخير من الليل ليطرق الباب الأعظم، يبحث آخر عن زوجة مناسبة في كل مكان رغم أن ما بينه وبينها هو في الحقيقة سجدة واحدة يتضرع فيها بـ"يارب"، يلجأ آخر لأشهر الأطباء رغم أن علاجه قد يكون في ريالات يدسها في جيب فقير يراه عند باب المستشفى ذاته.
 
رغم أن علينا استشعار "مالنا غيرك" في الرخاء والشدة، إلا أن اليقين بها يهجم على الناس في أوقات الأزمات لينتشلهم من براثن اليأس، "مالنا غيرك" يصرخ بها البحارة إذا هاجت الريح وتصاعد الموج فكادت السفينة أن تغرق،"مالنا غيرك" يلهج بها لسان سائق تاه في قلب الصحراء ونفد الوقود والماء وانقطعت الاتصالات إلا اتصال السماء، "مالنا غيرك" يبتهل بها مريض وقف الطب عاجزاً أمام وضعه وقرر الأطباء أنه يحتضر، "مالنا غيرك" يرفع بها مظلوم يديه إلى السماء فيَنزل الانتقام قبل أن يُنزِلَهما.
 
الخطوة الأولى لإصلاح الوضع أياً كان هي التسليم بالاحتياج المطلق لله، وبأن ينسب الفضل إليه فهو صاحب الفضل من قبل ومن بعد، "مالنا غيرك" يتخلص بها الإنسان من عبودية الأسباب فيكفيه الله من كل شيء، أليس الله بكافٍ عبده؟
 
حي يا قيوم أنا باسألك بأم الكتابْ
                حاجةٍ في كامن القلب وأنت أدرى بها
اعفّ عنا يا مجير النبي من العذابْ
                 واعف عن أمة محمد فهو وصّى بها
(د.عائض القرني)
 
الراية القطرية - الاثنين 22/4/2013 م

الأحد، 14 أبريل 2013

سعودي ولكن لقيط

قرأت مؤخّرًا كتاب "سعودي ولكن لقيط" لكاتبه سمير محمد، يتحدّث فيه عن حياته منذ بدأها في دار الرعاية، ألقى الضوء على مواقف ومشاعر كثيرة تزدحم داخل أولئك البشر، كما تَطرّق إلى النظرة الدونية لفئة مجهولي الأبوين وذكر الكثير من الأمثلة.
 
جعلني كلامه أسترجع بعض الممارسات التي نفعلها دون قصد فنُغذّي بها هذا النهم المريض نحو إقصائهم وتحقيرهم، ومن الأمثلة كلمات أغنية "العشرة ما تهون.. إلاّ على ابن الحرام!"، ومن المواقف اليوميّة الأم التي تُحذّر ابنها من "أبناء الحرام" رغم أن "أبناء الحلال "من "أصدقاء السوء" هم الخطر الحقيقي، بغضّ النظر عمّا يُقصد من هذه التسميات فإنها تظلّ بشكل أو بآخر مرتبطة بتلك الفئة المظلومة.
 
بعد جلسات طويلة مع الذات وصل الكاتب أخيرًا إلى قرار التسامح مع مجتمعه والتوجّه نحو التفكير الإيجابي مما حقق له النجاح الأكاديمي والوظيفي، كما مارس الكاتب سيطرة كبيرة على نفسه وتحكّمًا يُثير الإعجاب في رغبات هذه النفس، يصعب التصديق أن شخصًا لم يمنح نفسه الضوء الأخضر لارتكاب المحرّمات مع غياب الرقيب العائلي أو القبلي، لكن تقوى الله هي بحقّ ميزان التفاضل بين الناس.
 
تحدّث الكاتب بإسهاب كبيرعن القَبَليّة التي بحث فيها شخصيًّا، حيث أخضع أبناء القبائل من أماكن متعدّدة في المملكة للدراسة، كما تعمّق الكاتب في تحليل النظام القَبَلي في المجتمع وانتقاده بكشف عيوبه وتناقضاته وتدخّلاته السافرة التي تتلاعب في كثير من الأحيان بأنظمة الدولة، والتي قد يصل ضررها إلى حياة الفرد الخاصّة حيث تعوق تطوّره بسبب قيود القبيلة ومجاملات أبناء العمومة.
 
رغم إعجابي بمبادئ الكاتب واتفاقي مع معظمها إلاّ أني أرى أنه للأسف يخوض معركة غير متكافئة الأطراف، خصمه فيها الصحراء وهو حبّة من رمالها، التعصّب القَبَلي وُجد قبل الإسلام ولا تزال سطوته إلى اليوم أقوى من الدين لدى الكثير من الناس، لا أرى في المستقبل القريب أيّ نور في آخر النفق بل مزيدًا من الأنفاق اللامنتهية.
 
ختامًا أسجّل إعجابي الشديد بالاهتمام الصادق الذي تُوليه المؤسسة القطرية لرعاية الأيتام (دريمة) لفئة مجهولي الأبوين، ففي الوقت الذي انشغل فيه الكثيرون بمادّيات الحياة وانهمكوا بالتطاول في البنيان؛ يظلّ في المجتمع أفراد أنقياء حملوا على عاتقهم فعل ما يجب علينا جميعًا فعله، وأبدعوا أيّما إبداع في تعويض تقصيرنا، بارك الله في جهودهم، ونفع بهم البلاد والعباد.
 
الراية القطرية - الاثنين 15/4/2013 م

الأحد، 7 أبريل 2013

Rock Bottom (2-2)

يقول أحدهم: اللحظة الحاسمة التي جعلتني أتخلص من إدمان المخدرات هي حين أوشكت أن أفقد أغلى ما أملك: عقلي، أفزعتني فكرة أنني قد أجن، عندها قرّرت أنني قد اكتفيت حقاً من الإدمان وهرعت باكياً إلى أقرب شخص لأترجاه كي يساعدني في إسكات الأصوات التي بدأت أسمعها في رأسي.
 
حين يتدهور وضعنا إلى الحد الأقصى ولا نتصور أن من الممكن أن يزداد سوءاً، كأنما ارتطمنا أخيراً بالصخرة في قعر الحفرة بعد انحدار طويل، لم يعد من الممكن النزول أكثر من ذلك فاضطررنا أخيراً للصعود، هذه هي الحالة الذهنية المسماة Rock Bottom التي نقرّر فيها أننا قد اكتفينا، قد يكون الوضع على درجة عالية من السوء فيخيل للمرء أن الموت أجمل من الاستمرارعلى ما هو عليه.
 
تختلف حدة هذه التجربة من شخص لآخر، البعض يمر بها حين يخسر أو يكاد أن يخسر شيئاً لا يتصور حياته بدونه، يتجلى له فيها أسوأ كوابيسه في حال يقظة، تُمثل لدى البعض دخول السجن ليفهم أخيراً أن عليه مواجهة مشاكله المالية، آخرون لحظتهم الفاصلة هي حين يفاجأون بخيانة شريك العمر فيتمكنوا أخيراً من التخلص من شباك التعلق بشخص لا يستحقهم، البعض لحظة الفهم لديه هي حين يُطرد من عمله ويجد نفسه عاطلاً.
 
كما أن هناك من لا يحتاج الكثير ليفهم الدرس، البعض لا تعدُ نقطة التحوّل في حياته نظرة خيبة أمل من أبيه أو دمعة من عين أمه، البعض تكفيه كلمة استهزاء واحدة ليقرّر أن يتغير، آخرون غيرّتهم آية قرآنية مرّت على مسامعهم أو فقرة من كتاب أو حتى مشهد تمثيلي عابر.
 
على الجانب الآخر هناك من لا يريد أن يستوعب دروس الحياة وصفعاتها المتتالية، يذكرني بذلك شخص خسر في سبيل اتباع هواه صحته، تركته زوجته الصالحة، طُرد من وظيفته، خسر الكثير، ولم يستشعر تلك اللحظة الحاسمة حتى قُبِضت روحه، لم يتأمل حاله بتمعن في حياته وأغلق قلبه عن كل محاولات الإصلاح الجادة، لحظة الصحوة لديه أتت متأخرة كثيراً، دفع عمره ثمنها.. حرفياً.
 
يكون ثمن لحظة التغيير فادحاً أحياناً، غالِ لدرجة أن نتساءل هل تستحق الحقيقة أن ندفع ثمنها هذا كله؟ رأيي الشخصي أن الثمن أياً كان يستحق أن يُدفع طالما أننا مازلنا على قيد الحياة ونستطيع إصلاح ما يمكن إصلاحه من أخطائنا قبل الموت، لأن الحياة وإن أنقصت خسائرنا منها الكثير فهي في كل الأحوال غير كاملة.
 
رُبَّ محنة منحة، يحتاج الإنسان أحياناً للمحن التي تشعل داخله ضوءً ما وتدفعه دفعاً إلى تعديل مسار حياته في التخلص من القيود التي كبّل نفسه بها، ولكن ليس من الحكمة أن نؤخر التوبة أو التخلص من الإدمان وغيره حتى تحين تلك اللحظة، لأنها قد لا تأت أبداً، يجب أن لا ننتظرها وإنما نسعى لصنعها بأيدينا إن لم تُقّدّم لنا على طبق من المرض يرغمنا على ممارسة الرياضة أو تزف لنا في جنازة صديق لنعرف أن العمر قصير.
 
إن مررت بلحظة الصحوة لاتتجاهلها، استشعرها واسمح لها أن تغيّر حياتك، أما إن لم تجدها فأوجدها ولا تؤجلها، فنحن لا نملك صلاحية تحديد وصولنا لتلك المرحلة، ولذلك فرغم إعجابي بقوة تأثير هذه اللحظة إلا أنني أؤمن أن في انتظارها سذاجة لا متناهية.
 
الراية القطرية - الاثنين  8/4/2013 م

الأحد، 31 مارس 2013

Rock Bottom (1-2)

 
 
كانت تُعاني من الوزن الزائد ولم تتمكّن من التخلص منه، لم أرها منذ ثلاث سنين، رأيتها مؤخّرًا فلم أتعرّف عليها إلاّ من صوتها حيث تغيّر شكلها الخارجي نهائيًّا، فرحت من أجلها ولم أتمكّن من التخلص من فضولي فسألتها كيف استطعتِ فعل ذلك؟ ما الذي دفعك للنجاح في إنزال الوزن بعد أن فشلت كل المحاولات في إقناعك بذلك؟
 
قالت لي: مررت في السابق كما تعلمين بمواقف كثيرة كان من المفترض أن تقنعني بالالتفات إلى خطورة وضعي وضرورة معالجته، لكني كنت أتجاهل كل الإشارات، تجاهلت تدهور وضعي الصحي، تجاهلت صعوبة التسوّق لعدم وجود ملابس تُناسبني، تجاهلت الاختناقات التي كانت تُوقظني من نومي عاجزة عن التنفس، تجاهلت نظرات الاستنكار حين أهمُّ بالدخول إلى مصعد مزدحم، تجاهلت تأخّري في الزواج في الوقت الذي امتلأت فيه أحضان صديقاتي بالأبناء، لقد أرسل الله لي الكثير من الإشارات والضربات المتتالية على رأسي فلم أفهم، حتى جاءت الضربة القاضية التي كانت بمثابة الصفعة على وجهي، شعرت أن شخصًا ما يهزّني هزًّا ويقول لي : كفى!
 
هذا الشخص هو أنا، وذلك بعد أمسية في أحد المطاعم المزدحمة، حيث ذهَبتُ مع صديقاتي لتناول وجبة العشاء، كان المطعم فريد الطراز يجمع بين الحداثة والتراث، جلست على الكرسي المصمّم ليُشبه الكراسي القديمة، ويبدو أنه يُشبهها في الجودة كذلك، حيث ظلّ يئنّ تحت وطأة وزني الثقيل حتى انهار بعد ربع ساعة فقط، كنت حينها قد بدأت للتوّ بتناول الطعام.
 
لكِ أن تتخيّلي وضعي في تلك اللحظة، لم أشعر بالإحراج قدر شعوري بالذلّ والكلّ ينظر لي من الأعلى، أأضحك على الموقف أم أصرخ من الألم؟ أأبكي أم أتصرّف كأن شيئًا لم يكن رغم أني لن أستطيع الوقوف دون مساعدة من عدّة أشخاص؟ أمّا ردود أفعال الناس فتباينت ما بين هدوء الكبار وضحكات الصغار، تهامس الفتيات ونظرات الشفقة، أي ردّ فعل في هذه اللحظة مهما كان ليس بمقبول، لأنّ الوضع بأكمله ليس مقبولاً، حتى أولئك الذين ألقوا باللوم على الكرسي لم يشفوا غليلي، لأني كنت غاضبة على نفسي أكثر من غضبي على أي شيء آخر، كيف سمحت لنفسي بالوصول إلى هذه المرحلة؟
 
ذكرني كلامها بكلمة rock bottom بالإنجليزية، التي تُترجم بنهاية الأمر أو النقطة الحاسمة أو اللاعودة، ويُطلق عليها أحيانًا مسمّى "الحضيض" في الحالات الشديدة، سأتحدّث بتفصيل أكثر وبمزيد من الأمثلة الواقعيّة عن هذه الحالة الذهنية بأبعادها المختلفة الأسبوع المقبل إن شاء الله.
 
الراية القطرية - حديث الاثنين 1/4/2013 م

الأحد، 24 مارس 2013

تكشيرة الصباح

حين يُحاصرك الازدحام المروري صباحًا في طريقك للعمل؛ تلفّت حولك وانظر إلى وجوههم، مدخّن حانق يزفر بعصبيّة مُخرجًا من رئتيه دخانًا كثيفًا، امرأة ترتدي نظارة قاتمة كبيرة تُغطّي أكثر ملامحها ورغم ذلك تفشل في إخفاء العبوس الصباحي الشديد، أصوات تتعالى وأذرع تخرج من السيارات مندّدة ببعضها بعضًا، سائق متوتر يخشى أن يستسلم لإلحاح الطالبة الجامعيّة التي يُقلّها بزيادة السرعة وتخطّي السيارات فيتورّط بمخالفة يُواجه بها أباها/كفيله فيما بعد، أجواء مزعجة كفيلة بإفساد اليوم بأكمله لدى البعض، رغم أنه صبح يتنفس أقسم به الخالق من فوق سمواتٍ سبع.
 
تصل للعمل فلا يردّ أحد السلام كاملاً إلاّ من رحم ربّي من القلة التي استطاعت الوصول بنجاح إلى كلمة بركاته، وكثير لا يصلون إلى اللام التي تلي السين في كلمة السلام، إن كنت مراجعًا في جهة حكوميّة فمصيرك متوقف على كون الموظف حصل على قهوته أم لا؛ وإن كنت محظوظًا حقًّا ستأتي بعد أن أتمّ إفطاره واستعدّ أخيرًا للبدء في العمل بعد أن توسّطت الشمس كبد السماء، إن كنتِ طالبة فليس لكِ إلاّ أمنية أن معلمّتك قد شبعت نومًا البارحة ولم يُكدّر صفو صباحها شيء لتصبّ جامّ غضبها على الطالبات.
 
من المفارقات العجيبة أن أعداء الصباح لا يكتفون بالغضب منه وإنّما يمتدّ غضبهم إلى كل مبتسم ارتكب جريمة "الروقان الصباحي"، فتراهم يستنكرون عليه راحته وترتفع حواجبهم بالسؤال الاستنكاري: أيّ نوع من البشر يبتسم في الصباح الباكر، يا لتفرّغه!
 
إن كنت من التعساء صباحًا فعليك مراجعة نفسك وإصلاح الوضع، وتأكّد بما لا يدع مجالاً للشك أن العيب ليس في الصباح، فمن السنن الكونيّة أن البركة في البكور، العيب فيمن قرّر أن يسهر ليله وهو يعلم أن عليه الاستيقاظ مبكّرًا، العيب فيمن نام عن صلاة الفجر فصحى متأخّرًا عن العمل وقد فاتته أولى بركات الصباح، ومن المرجّح أنه لن يقرأ القرآن أو أذكار الصباح في خضمّ التوتر الصباحي اليومي حيث سيُسابق الوقت للوصول إلى مكتبه ناسيًا في طريقه أشياء كثيرة، لن يملك الثقة بمظهره ولن يعرف النشاط طريقًا إليه، سيقضي يومه مراقبًا الساعة في انتظار انتهاء العمل، كما قضى أسبوعه مُجرجرًا جسده من السرير كل صباح يسوق نفسه سَوْقًا لمكتبه في انتظار إجازة نهاية الأسبوع ، ليس من الحكمة أن نُضيّع أعمارنا في انتظار "الويك إند" لنُصدم بسرعة انقضائه في كل مرّة، كل مرّة، رغم أن الصدمة يُفترض أن تُبنى على عنصر المفاجأة.
 
تحيّة امتنان أُوجّهها للموظفة صاحبة التكشيرة السامّة التي تستقبل بها المراجعين باستمرار، كتبت هذا المقال من وحي جبينك المقطّب، أشكرك على الابتسامة المجّانية التي بخلت بها، أشكرك لأنك جعلتيني حريصة على عدم جرح صباحاتهم بظروفي الخاصّة التي لا ذنب لهم بها، وأتمنّى من كل قلبي أن يجد هذا المقال طريقه إلى يديك عَلّكِ تتحسّسين بهما ما على رأسك.
 
الراية القطرية - الاثنين 25/3/2013 م
 

الأحد، 17 مارس 2013

هل أوقفت المنبه مرة أخرى ؟

هل ضبطت المنبّه يومًا على وقت مبكّر عازِمًا أن تستيقظ فتُمارس الرياضة أو تقرأ القرآن وغير ذلك من الخطط التي تبدو سهلة جدًّا قبل النوم، ولكن ما إن يُزلزل صوته أركان السرير الدافئ حتى تُسكِته وتُكمل نومك؟ ثم تُعيد ضبطه في اليوم التالي ممنّيًا نفسك ليلاً بإنجازات صباحيّة مُبهرة مهما كلفك الأمر، ليتكرّر الفشل الصباحي اليومي كأنّ شيئًا لم يكن.
 
هل قرّرت قبل بدء العام الدراسي أن تُذاكر أوّلاً بأوّل، ومع مرور فترة بسيطة بدأت الدروس تتراكم وفشلت في السيطرة على الوضع؟ ثم يتكرّر القرار ذاته في الفصل الدراسي التالي لتتكرّر فصول المسرحيّة ذاتها كل عام .. حتى تتخرّج.
 
إن كنت تتخذ قرارات إيجابيّة كتلك ثمّ تتقاعس عن تطبيقها فلست وحدك، يعجز الجسد أحيانًا عن تلبية نداء الحكمة، وكلما استسلمنا لرغبات الجسد الباحث عن الراحة ينتهي بنا المقام نادمين على لحظة كنّا نستطيع فيها إرغام النفس على ما تكره طمعًا في القادم، وفي هذا السياق يحضرني حديث رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ " (صحيح مسلم).
 
ضع لنفسك أهدافًا واقعيّةً ونفّذها تلقائيًّا دون تفكير مطوّل، فقط ادفع نفسك دفعًا للبدء بها، يقول الكاتب والمحاضر الأمريكي مايك دولي: إن من المهم جدًّا أن تستمرّ في المحاولة، ادفع نفسك نحو ذلك، إذا وجدت نفسك متكاسلاً اكذب على نفسك و قل اليوم فقط، الآن فقط، سأكتب فقرة واحدة فقط، سأقوم باتصال هاتفي واحد، سأطرق باب واحد، بعدها ستجد نفسك تقول أنا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك.
 
يُبرّر البعض فشلهم في تحقيق الأهداف بضعف الإرادة، رغم أن غياب الإرادة المشتعلة لا يعتبر سببًا كافيًا للفشل، فمن لا يملك الإرادة القويّة يملك في داخله أمرًا أقوى وهو القدرة على تأديب الذات بإرغامها على ما تكره، تمامًا كما يفعل الإنسان أثناء صيامه، فهو لا يحتاج إرادة قويّة ليستكمل الصيام رغم الجوع، يكفيه أن يُؤمن بأهمّيته فيُرغم نفسه عليه، منع نفسه بكل بساطة من الطعام والشراب حتى المغرب مهما كان مُحبًّا للأكل، وبذلك استطاع أن يصوم رغم اقتناعه أنه لا يملك الإرادة الكافية لإنزال الوزن، ولو كان صيامه جزءًا من نظام غذائي لَتَذَرّع بضعف الإرادة، ما أُريد أن أصل إليه هو أننا نستطيع فعل الأمور وإن لم نردها، بمعنى: وإن لم نملك إرادة قويّة تدفعنا لفعلها بحماس، يكفينا أن نُذَكِّرأنفسنا بأهميّتها.
 
نحن نستطيع أن نتجرّع العلقم إن كان فيه شفاء نبتغيه، فغياب الإرادة لا يعني غياب المحفّز، ومتى ما آمنّا بوجود محفّز استطعنا إرغام أنفسنا على القيام بالأمور المزعجة، ومع الممارسة سنعتاد على إجبار أنفسنا على المكاره فيسهل ذلك علينا، وفي هذا السياق يقال إن قوّة التحمّل هي العامل الرئيسي في اجتياز الأبطال للماراثونات وليس عامل اللياقة كما هو الاعتقاد السائد.
 
انظر للناس حولك تجدهم يقومون يوميًّا بأعمال ألزموا أنفسهم بها وإن كرهوها، فالخادمة التي لم تفرّط يومًا في الاستيقاظ مبكّرًا للتنظيف تحبّ النوم تمامًا كأهل البيت الغاطين في نوم عميق وربّما أكثر، لكن إيمانها بأهميّة ما تقوم به لكسب الرزق ومساعدة أسرتها دفعها لذلك دفعًا، وهذا ما ينبغي علينا تطبيقه: نُذكّر أنفسنا بالأسباب، ولنعلم أننا إن لم نتحكّم في أنفسنا فإننا سنكون فريسة سهلة لتتحكم بنا المؤثرات الخارجيّة.
 
ومع قدرة الإنسان على أن يقول لنفسه "لا" ينمو في داخله احترام كبير لذاته، والعكس صحيح فهو إن خذل ذاته في كل مرّة سيفقد احترامه لنفسه ويتعاظم إحساسه بالفشل، كما أن الإنسان بتأديب النفس يتحرّر من عبوديّتها، فيُصبح كل شيء بعد ذلك ممكنًا لأنه انتصر على أخطر أعدائه: نفسه، استعن بالله على نفسك وسترى العجب.
 
جريدة الراية - الاثنين 18/3/2013 م

الأحد، 10 مارس 2013

نجحوا في الحياة فشلوا في الحب

يُقال إن وراء كل رجل عظيم امرأة، بمعنى أنها سبب نجاحه بدعمها له، لكنني أتحفّظ على استخدام كلمة "كل" في المقولة، ففي حالات كثيرة يكون وراء الرجل العظيم امرأة لا تفهمه وتعجز عيناها عن رؤية مميّزاته، لعلّه أصبح عظيمًا بسبب انغماسه في العمل هروبًا منها.
 
الأمر ذاته ينطبق على المرأة العظيمة، فبعضهن ابتلين برجال يحاولون مرارًا سحبهن للوراء مهما بلغن من التميّز، ولهذا السبب ثمة عظيمات لم نسمع بهن للآن، البعض لا يحتجن للدعم بقدر حاجتهن للتخلّص من القيود التي ما أنزل الله بها من سلطان، يُقال في هذا السياق: وراء كل امرأة عظيمة رجل تركها في حالها، وإحقاقًا للحق؛ فأنا أتحفّظ هنا كذلك على استخدام كلمة "كل"، لكن الشيء بالشيء يُذكَر.
 
الفيلسوف اليوناني سقراط الذي يُعتبر مؤسس الفلسفة الغربية حيث ملأ العالم قيمًا في ذلك الزمان وسار على خُطاه الكثير من الفلاسفة لم يكن متوافقًا مع زوجته، يُقال إنها كانت سليطة اللسان يعلو صوتها عليه بالإهانات أمام تلاميذه، لم تتفهّم عظمة ما كان يفعله، لكنه انشغل عن اختلافه معها بفلسفته وتلاميذه فترك للعالم إرثًا تنهل منه البشرية حتى اللحظة.
 
ومن النماذج المعاصرة السيد راتان تاتا الذي يَدرس طلبة الجامعات عبقريته في إدارة الأعمال والخدمات الجليلة التي قدّمها لبلاده، حيث كرّمته حكومة الهند بمنحه ثاني أكبر وسام في الدولة (ولا تزال شوارع الهند تتزيّن بسيارات تاتا الهندية في الوقت الذي يُقرأ فيه هذا المقال)، ابتكر هذا الرجل سيارة تاتا نانو وهي أرخص وأصغر سيارة في العالم، وذلك بعد أن رأى أسرة هندية تركب دراجة ذات عجلتين على طريق وعرة فاستفزّه المنظر وقرّر أن يبتكر سيارة منخفضة السعر للفقراء، تمكن من تحقيق ذلك في ست سنوات فقط.
 
هذا الرجل العظيم عاش حياته مكافحًا حتى وصل إلى هذه المرحلة من النجاح والثروة ولكنه إلى اليوم وفي عمر السادسة والسبعين ما زال عازبًا وقد نقل عنه موقع بزنس ستاندرد (وهو موقع متخصص في أخبار الأعمال في الهند) بعد أن أتمّ السبعين عامًا أنه يعترف أنه وحيد ولكن ليس لديه الجرأة الكافية كي يُعالج هذا الوضع، كما ذكر أنه طالما عانى من مشاكل في الثقة بالنفس، ويُقال إن بعض مشاكله النفسية قد حلّت بعد أن تطوّرت شركة تاتا موتورز مع الألفية الجديدة.
 
إن الانشغال بتحقيق الإنجازات خير وأعظم أجرًا من الانشغال بالسعي خلف حب لم يُكتب لنا، كثير من الأفراد الفعّالين في المجتمع هم نتاج بيئة أسريّة طاردة، بل إن الكثير ممن قدّموا للبشرية خدمات جليلة هم أنفسهم لم يجدوا في حياتهم الخاصة من يحنو عليهم ويسعدهم، ولا بأس، فمُعاناة الإنسان على صعيد واحد من حياته لا تعني فشله في بقية الأصعدة، وإنما قد يمنحه ذلك النقص دافعًا للتفوّق المذهل في الأمور الأخرى، والأمثلة من حولنا كثيرة.
 
الراية القطرية- الاثنين 11/3/2013 م

الأحد، 3 مارس 2013

هل دمرت إنساناً ؟

"هل تعرفين سبب فشلي؟" فاجأتني بهذا السؤال، ثم استرسلت: "إنها معلمتي في المرحلة الابتدائية، هي سبب كل ما أنا فيه!"، استغربت من كلامها، فما دخل المعلمة بما يحدث لها الآن بعد سنوات طوال تزوجت فيها وأنجبت، بل وأصبحت اليوم جدّة!
 
 
تقول: حين كنت في بداية المرحلة الابتدائية كانت المعلمة تستهدفني بشكل شخصي، تصفني بالقبح والغباء أمام الفتيات، لا تتوانى عن توبيخي وضربي، جعلت مني أضحوكة أمام الجميع، بسببها عجزت عن فهم الدروس وكرهت المدرسة والتعليم بأكمله، كنت لا أنام الليل خوفًا منها، وكنت أصاب في الصباح بالمغص والغثيان، بل إنني كنت أستفرغ كل ما في معدتي الصغيرة أمام باب المدرسة فيشفق أبي علي ويُعيدني للمنزل.
 
 
حتى أتى اليوم الذي استسلم فيه أهلي لرغبتي وسمحوا لي بترك مقاعد الدراسة، تزوجت بعدها أول خاطب لسبب بريء وهو كي لا يعيدوني للمدرسة، فكنت كالمستجير من الرمضاء بالنار، لقد كانت معلمتي السبب الرئيس الذي جعلني أقبل بهذا الرجل السيئ الذي أحال حياتي جحيمًا، وها أنا اليوم أمامك أعاني ذل الحاجة ويحرجني عجزي عن فك الخط في الوقت الذي يتمتّع فيه كل من حولي بوضع اجتماعي ومادي يلائم طبيعة المجتمع، لقد دمرت تلك المعلمة حياتي.
 
 
أشفقت عليها، وتساءلت: هل يعي الناس أنهم بتصرّفات صغيرة ربما يتسبّبون في تدمير حياة إنسان؟ هل يعلم الشاب الذي قرّر أن يتسابق مع أصدقائه بسيارته في الشارع العام عن حال الشخص الذي صدمه؟ هل يستوعب عقله أن لحظة الترفيه التي تسابق فيها بطيش جعلت شخصًا آخر يفقد قدرته على الحركة ويستعين بالآخرين في كل شيء، كل شيء.
 
 
متى يستوعب الأب الذي لم يتوانَ عن وصف ابنه بالفشل في كل محفل ومقارنته بأقرانه؛ أنه السبب المباشر الذي جعل الابن يقضِ الساعات الطوال خارج المنزل، يصدّق فيها أنه سيئ ويتعرّف على صحبة سيئة، وربما قرّر أن يُكمل تعليمه في الخارج فقط ليهرب من المنزل ويمارس الضياع خارج حدود الوطن، كل ذلك بسبب كلمات قالها أبوه وحفرت لها مكانًا في روحه وهو طفل ليحملها معه رجلاً أينما ذهب ويحاول أن يخدّر غضبه منها باللهو الذي ربما يدمّر حياته.
 
 
متى يفهم الزوج أنه حين أدخل ابنة الناس إلى منزله وفرض عليها قوانينه الجائرة فحرمها من أهلها وصديقاتها وربما منعها من استكمال تعليمها وغير ذلك؛ أنه ساهم بشكل مباشر في إصابتها بمختلف الأمراض العضوية والنفسية في مجتمع لا يعترف بحق المريض النفسي في العلاج!
 
 
قد تبدو رسالة حديث هذا الاثنين بديهية، بكل بساطة لا تدمّر حياة الآخرين، لكنها أعمق من ذلك، هي تنبيه على خطورة سوء استغلال أي سلطة منحنا الله إياها نحو عباده، هي دعوة لنراعي آثار كل تصرّفاتنا على حياة الناس من حولنا، هي دعوة لنعي خطورة سلاح الكلمات ولا نستخدمه في تدمير حياة الآخرين فيعانوا بسببنا دون أن نعلم، فإن لم نعاملهم بالحسنى حرصًا عليهم فلتكن مراعاتنا خوفًا من الجبار الذي لا شك سيقتصّ لهم من فوق سمواتٍ سبع.
 
جريدة الراية القطرية- الاثنين 4/3/2013
 

الأحد، 24 فبراير 2013

لماذا أنا ؟!

ما الذي فعلته ليحصل لي كل هذا؟ سؤال قد يتبادر إلى الذهن في لحظة ضعف ويجعل الإنسان يتساءل: لماذا أنا؟ لماذا أنا بالذات أُحرم من ذلك الأمر الذي يتمتع به الكثيرون غيري، بل يتمتع به من هم دوني في الأخلاق أو الإيمان أو غير ذلك.
 
قد يتساءل أحدنا: لماذا أصبت بهذا المرض المُزمن بينما فلان يتمتع بصحة يُمارس بها المنكرات ويُسافر لأقصى بقاع الأرض وأنا هنا محبوس في مكاني أعجز حتى عن الذهاب لأقرب الأماكن؟ وقد تتساءل أخرى: ألا أستحقّ زوجاً أفضل من هذا الذي قَلَب حياتي جحيماً رغم كل ما أفعله من أجله بينما زوج فلانة يُوفر لها كل شيء وهي أقل مني في كل شيء؟ وربّما تساءل أحدهم: أيعقل أن أُحرم من الزواج لسوء وضعي المادي وأنا العفيف الذي ما عرف الحرام يوماً بينما فلان الفاسق يملك الأموال التي فاضت بها جيوب فتيات الهوى؟
 
ما هو الشيء الذي يُشعرك بالنقص لتتساءل حياله: لماذا أنا؟ إن كان في دينك فأنت حقاً تُواجه خسارة كبيرة عليك تداركها قبل أن يسبقك الآخرون إلى جنان الخلد، أمّا إن كان في غير الدين فتلك أمور زائلة لا يُعتدّ بها إطلاقاً، فالدنيا تُقبِل على البَر والفاجر، لأنها ليست بذات قيمة أصلاً؛ ما لم يُستعان بها في التزوّد للآخرة الباقية.
 
لو كان للأرزاق الدنيوية قيمة تُذكر ولو وُزّعت بين الناس حسب ما يستحقون لما سقى الله كافراً في الدنيا شربة ماء، لكن الدنيا أحقرعنده سبحانه من جناح بعوضة، ثمّ إن قيمتنا عند الله لا يحدّدها ما نملك من صحة أو مال أو أبناء أو منصب أوغير ذلك، كما أن الابتلاءات مهما اشتدّت فهي زائلة وقصيرة أطولها سيُنهيه الموت قطعاً، وما أقرب الموت.
 
من المفارقات العجيبة التي تبرز مع جملة "لماذا أنا؟" أن الإنسان قد يتحسّرعلى حاله وهو لا يعلم أنه في خير عظيم، الوجع الدنيوي أشغله عن إدراك ذلك، ورغم أننا نعلم أن أمر المؤمن كله خير، إلاّ أننا نعجز أحياناً عن رؤية عواقب الأمور، فالابتلاءات قد تكون طريقنا للجنة إن صبرنا واحتسبنا.
 
هل نحن أعزّ على الله من حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يسلم من الهموم وهو سيّد البشريّة؟ ألم يُكتب عليه اليتم وليداً فما رأت عيناه الشريفتان أبيه قط؟ ثم ماتت أمه وهو في سن صغيرة، لا أحسبه كان مستعدّاً لهذا الفقد المؤلم، أيّ وجع سكن صدره الشريف وهو يدفن أبناءه صغاراً؟ أي حزن هجم عليه حين مات عمه وناصره وهو لم يتمكن حتى أن يقنعه بتلفظ كلمة يحاج له بها عند الله؟ وفي العام ذاته اختفت من حياته تلك التي زملته وهو يرجف رعباً وآمنت به حين كذبه الناس، لسنا أعز على الله منه صلى الله عليه وآله وسلم.
 
لا تقل "لماذا أنا" تحسّراً على مافاتك من دنيا زائلة فاتك فيها قبل ذلك لقاء الحبيب، إن دنيا تخلو من أنفاسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالزهد بما فيها، قال أبو العتاهية:
اصبر لكل مصيبة وتجلدِ     واعلم بأن المرء غير مخلدِ
أو ما ترى أن المصائب جمةً؟     وترى المَنية للعباد بمرصدِ؟
من لم يصب ممن ترى بمصيبةٍ؟     هذا سبيل لست عنه بأوحدِ
وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها      فاذكر مصابك بالنبي محمدِ
 
جريدة الراية القطرية - الاثنين 25/2/2013 م

الأحد، 17 فبراير 2013

سبب التغيير!

أعرفها شخصيًا، تعيسة في حياتها، المحيط الأسري الذي تعيش به سيء للغاية، لا أحد يهتمّ بها أو حتى يحترمها من أهلها، صادفتها منذ فترة فإذا بها قد تغيّرت كليًا، جميلة رشيقة مبتسمة أنيقة، في عينيها بريق الحياة، تتحدّث بثقة لم أعهدها، تحمست كثيرًا لأسمع قصتها وأعرف سبب هذا التحوّل الكبير في شكلها ونفسيتها.
 
دارت ببالي أمور كثيرة، لعلّها تزوجت من رجل صالح عوّضها عن بؤس الماضي، لعلّها ورثت مبلغًا كبيرًا أسعدها واشترت به كل ما كان ينقصها، ربما تغيّر أهلها فجأة فعرفوا قيمة وجودها وأصبحوا يقدّرون كل تضحياتها، لعلّها حصلت على وظيفة رائعة براتب مغرٍ وظروف عمل أفضل من وظيفتها السابقة التي كانت تشتكي منها.
 
أجابتني بهدوء: أما الزواج فلم يُكتب لي بعد، وأما الوضع المادي فديوني كما هي ما زالت تلتهم راتبي شهريًا، أهلي لم يتغيّروا بل لم يفرحوا لي أو حتى يهتمّوا بما طرأ على حياتي من تغيّر إيجابي، وظيفتي ما زلت فيها وما زال المدير المتسلط موجودًا، لم يتغيّر شيء من حولي.
 
أثار ردها استغرابي الشديد، واسترسلت في كلامها: قصصنا في هذه الحياة ليست مثيرة بالضرورة، فنحن لا نعيش فيلمًا ذا حبكة مسلية، وإنما قد تكمن غرابة الأحداث في ضعف مسبباتها، لم تمطر السماء عليّ ذهبًا يا عزيزتي، وددت لو أن لدي قصة جميلة كالقصص التي خدعونا بها لأرويها لكِ، قصة لا تخلو من السحر، فيها تفاحة مسمومة تليها قبلة تمنح الحياة، فيها ضفدع يتحوّل إلى أمير، لا يا صديقتي، ما زال أبي البخيل يرفض استقدام خادمة، وما زلت كلما نفضت الغبار من المنزل أتخيّل المارد الذي سيظهر أمامي ويُحقق لي المستحيل، لكن الغبار لم يمنحني إلا السعال وتزايد نوبات الربو مع تغيّر الجو.
 
كل ما تغير هو نظرتي لنفسي ولما حولي، لا تستغربي ولا تستهيني بالتغيير الداخلي، فالأمور العظيمة تبدأ من الداخل، قرّرت أنني لن أنتظر شيئًا من أحد، ولن أكون أنا والمجتمع ضد نفسي، أنا اليوم لا أقسو على نفسي حتى إن قصرت في أمر ما، وإنما أطبطب عليها برفق وأقول لا بأس غدًا يوم جديد نتدارك فيه الهفوات وتمضي الحياة.
 
استعنت بعدد من الكتب والدورات لأتعلم كيف أحبّ نفسي وأدللها، ولأتعلم كذلك كيف أتفادى سلبية الآخرين، اكتسبت عددًا من المهارات الحياتية التي جعلتني إنسانة إيجابية أرى الجانب المشرق في أحلك المواقف، حسّنت عاداتي الغذائية وسعيت للتخلص من الوزن الزائد، لقد حققت لنفسي التوازن الذي كنت أطمح له على مختلف أصعدة الحياة الديني منها والدنيوي، فعلت ذلك كله من أجل نفسي فقط، لم أسعَ لتغيير رأي أحد فيّ، ولم أنتظر من أي إنسان أن يصفّق لي كي أستمر، وإنما استمررت لأني أعلم أن أحدًا لن يصفق لي.
 
هذه قصتي، تغيّرت بلا سبب سوى أني أردت ذلك بكل جوارحي، اقتنيت حذاء السعادة بنفسي ولم أنتظر ابن الملك ليعثر عليه ثم يجدني ويجلس عند قدمي ليلبسني إياه، رغم بساطة قصتي إلا أني أفتخر بها كثيرًا، اعذريني إن لم تحقق لكِ الإثارة وأحسبها قد أصابتكِ بالضجر، ورغم ذلك فأنا أعرض عليكِ أن تكتبي عنها إن شئت، أريني كيف سيصيغها قلمكِ، فأنا وبكل تواضع أرى أنها ستلامس حياة الكثير من القراء الذين ينتظرون التغيير من الخارج، رغم أن التغيير.. لبّ التغيير.. يبدأ من الداخل.
 
جريدة الراية القطرية - الاثنين18 /2/2013 م
 

الأحد، 10 فبراير 2013

خيمة السعادة

حين أعود بالذاكرة إلى الوراء لأسترجع أسعد لحظات الطفولة تقفز إلى الذهن قصص كثيرة، أبرزها أمور غير مكلفة، بل إن الكثير منها مجاني، مما جعلني أتساءل هل حقاً السعادة مجانية ومتاحة للجميع؟ وهل يعقل أن تجد السعادة مكاناً أكبر في قلب العامل الذي يفترش الإسمنت ويلتحف الشمس الحارقة بينما لاتكاد تجد لها مكاناً في قلب ساكن القصر في الشارع ذاته؟.
أسعد ذكريات الطفولة المبكرة جداً بالنسبة لي لم تكن السفر للخارج أو شراء الألعاب الغالية، رغم أنني ممتنة جداً لكل تلك الذكريات الرائعة، إلا أن الذكرى الأكثر صخباً في داخلي كانت حين "ألعب خيمة" مع والدي أطال الله عمره على الصالحات، كثيراً ماكان يسألني قبل أن يأوي إلى فراشه "هل تريدين أن نلعب خيمة؟" فأقفز فرحاً وأجري نحو غرفته بحماس منقطع النظير لأجلس داخل تلك الخيمة الواسعة منبهرة بضوئها الخافت، حيث كنت أندس تحت فراش أبي الذي يرفع رجله ويده ليتحول السرير إلى خيمة سحرية عجيبة أقهقه داخلها كأنني ملكت الدنيا ومافيها.
الأطفال حديثو العهد بالدنيا ولذلك فنفوسهم مازالت على الفطرة السليمة، فقهوا حقيقة السعادة التي لاتحتاج لجهد جبار، ولعل درس السعادة بالموجود (أياً كان) هو أثمن مايمكن أن نتعلمه من الأطفال، إلى جانب العديد من الدروس الثمينة كالتسامح والمرح وتكرار المحاولات في كل شيء كي تظل جذوة الحياة مشتعلة.
القدرة على الاستمتاع بتفاصيل الحياة الصغيرة من أبرز مهارات السعداء، منح الذات صلاحية التلذذ بكوب من الشاي على دكّة متهالكة والنفس راضية أجمل من ارتشاف قهوة فاخرة في أفخم مقاهي باريس بنفس لاتشبع من الدنيا، مراقبة طفل متحمس لاكتشافه المشي ممتعة أكثر من مراقبة شاشات الأسهم ارتفاعاً ونزولاً، تناول شطيرة لاتتجاوز الخمس ريالات مع شخص تحبه يسعد أكثر من تناول وجبة في أغلى الفنادق مع شخص لاتستطيع فتح حوار معه فينشغل كلاكما بهاتفه الثمين المغلف بغطاء غال.
المال لايشتري السعادة، ولو كان يشتريها لكان الأثرياء أبعد الناس عن الأمراض النفسية وحالات الإدمان والانتحار، أصحاب النفوس الغنية هم السعداء حقاً، إذ أن رضاهم بمالديهم صرف أذهانهم عن الحزن على مافاتهم، فانشغلوا بالاستمتاع بما لديهم.
هذه دعوة لنلتفت قليلاً لجمال الأشياء البسيطة، ولنخترع لأبنائنا المزيد من خيام السعادة؛ فضوؤها الخافت سيتسلل إلى أرواحهم بعد حين، لينتشلهم من أحلك لحظات العمر، ويمنحهم الدفء والأمان.
 
جريدة الراية القطرية - حديث الإثنين 11/2/2013 م