الأحد، 21 أبريل 2013

مالنا غيرك

 
 
تستوقفني مراراً جملة "مالنا غيرك" بصوت محمد عبده في رائعة د.عائض القرني: لا إله إلا الله، رغم أني استمعت لهذه الأنشودة في مواقف مختلفة إلا أن وقعها على مسمعي يختلف في كل مرة، هي تحفة فنية إن استمعت لها في سيارة في طريق فسيح ماداً ناظريك للأفق البعيد مستمتعاً بما حولك من خضرة أو صحراء لأضافت إلى سعادتك أضعافها، وإن أنصت لها في زاوية مظلمة بصدر فاض هماً لابتلّت وجنتيك رأفة ورحمة.
 
بما أن القصيدة أعظم من أن تُلخص في مقال متواضع حيث رسم القرني حروفها بخلاصة علمه الغزير وتحدى الشعراء بثقة في مجاراتها؛ فقد آثرت أن أتحدث عن كلمتيّ "مالنا غيرك" بمعنى: ليس لنا سواك، وهما أصدق تعبير عن حال الأمة التي لن تجد العزة بغير الإسلام، "مالنا غيرك" بعد أن تكالبت علينا الأمم فتداعت علينا كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
 
كما أن "مالنا غيرك" هي أبلغ ما يقال على لسان الأفراد باختلاف أوضاعهم، كلنا وكل شيء في حاجة ماسة لله، يظل الإنسان يبحث عن أسباب متناسياً مسبب الأسباب ربه ورب كل شيء، لعل التعلق بالأسباب أحد أكثر أمراض العصر الحديث انتشاراً، يسعى أحدهم لتحقيق حلم الوظيفة فيطرق كل الأبواب وينسى أن يضبط المنبه على الثلث الأخير من الليل ليطرق الباب الأعظم، يبحث آخر عن زوجة مناسبة في كل مكان رغم أن ما بينه وبينها هو في الحقيقة سجدة واحدة يتضرع فيها بـ"يارب"، يلجأ آخر لأشهر الأطباء رغم أن علاجه قد يكون في ريالات يدسها في جيب فقير يراه عند باب المستشفى ذاته.
 
رغم أن علينا استشعار "مالنا غيرك" في الرخاء والشدة، إلا أن اليقين بها يهجم على الناس في أوقات الأزمات لينتشلهم من براثن اليأس، "مالنا غيرك" يصرخ بها البحارة إذا هاجت الريح وتصاعد الموج فكادت السفينة أن تغرق،"مالنا غيرك" يلهج بها لسان سائق تاه في قلب الصحراء ونفد الوقود والماء وانقطعت الاتصالات إلا اتصال السماء، "مالنا غيرك" يبتهل بها مريض وقف الطب عاجزاً أمام وضعه وقرر الأطباء أنه يحتضر، "مالنا غيرك" يرفع بها مظلوم يديه إلى السماء فيَنزل الانتقام قبل أن يُنزِلَهما.
 
الخطوة الأولى لإصلاح الوضع أياً كان هي التسليم بالاحتياج المطلق لله، وبأن ينسب الفضل إليه فهو صاحب الفضل من قبل ومن بعد، "مالنا غيرك" يتخلص بها الإنسان من عبودية الأسباب فيكفيه الله من كل شيء، أليس الله بكافٍ عبده؟
 
حي يا قيوم أنا باسألك بأم الكتابْ
                حاجةٍ في كامن القلب وأنت أدرى بها
اعفّ عنا يا مجير النبي من العذابْ
                 واعف عن أمة محمد فهو وصّى بها
(د.عائض القرني)
 
الراية القطرية - الاثنين 22/4/2013 م

الأحد، 14 أبريل 2013

سعودي ولكن لقيط

قرأت مؤخّرًا كتاب "سعودي ولكن لقيط" لكاتبه سمير محمد، يتحدّث فيه عن حياته منذ بدأها في دار الرعاية، ألقى الضوء على مواقف ومشاعر كثيرة تزدحم داخل أولئك البشر، كما تَطرّق إلى النظرة الدونية لفئة مجهولي الأبوين وذكر الكثير من الأمثلة.
 
جعلني كلامه أسترجع بعض الممارسات التي نفعلها دون قصد فنُغذّي بها هذا النهم المريض نحو إقصائهم وتحقيرهم، ومن الأمثلة كلمات أغنية "العشرة ما تهون.. إلاّ على ابن الحرام!"، ومن المواقف اليوميّة الأم التي تُحذّر ابنها من "أبناء الحرام" رغم أن "أبناء الحلال "من "أصدقاء السوء" هم الخطر الحقيقي، بغضّ النظر عمّا يُقصد من هذه التسميات فإنها تظلّ بشكل أو بآخر مرتبطة بتلك الفئة المظلومة.
 
بعد جلسات طويلة مع الذات وصل الكاتب أخيرًا إلى قرار التسامح مع مجتمعه والتوجّه نحو التفكير الإيجابي مما حقق له النجاح الأكاديمي والوظيفي، كما مارس الكاتب سيطرة كبيرة على نفسه وتحكّمًا يُثير الإعجاب في رغبات هذه النفس، يصعب التصديق أن شخصًا لم يمنح نفسه الضوء الأخضر لارتكاب المحرّمات مع غياب الرقيب العائلي أو القبلي، لكن تقوى الله هي بحقّ ميزان التفاضل بين الناس.
 
تحدّث الكاتب بإسهاب كبيرعن القَبَليّة التي بحث فيها شخصيًّا، حيث أخضع أبناء القبائل من أماكن متعدّدة في المملكة للدراسة، كما تعمّق الكاتب في تحليل النظام القَبَلي في المجتمع وانتقاده بكشف عيوبه وتناقضاته وتدخّلاته السافرة التي تتلاعب في كثير من الأحيان بأنظمة الدولة، والتي قد يصل ضررها إلى حياة الفرد الخاصّة حيث تعوق تطوّره بسبب قيود القبيلة ومجاملات أبناء العمومة.
 
رغم إعجابي بمبادئ الكاتب واتفاقي مع معظمها إلاّ أني أرى أنه للأسف يخوض معركة غير متكافئة الأطراف، خصمه فيها الصحراء وهو حبّة من رمالها، التعصّب القَبَلي وُجد قبل الإسلام ولا تزال سطوته إلى اليوم أقوى من الدين لدى الكثير من الناس، لا أرى في المستقبل القريب أيّ نور في آخر النفق بل مزيدًا من الأنفاق اللامنتهية.
 
ختامًا أسجّل إعجابي الشديد بالاهتمام الصادق الذي تُوليه المؤسسة القطرية لرعاية الأيتام (دريمة) لفئة مجهولي الأبوين، ففي الوقت الذي انشغل فيه الكثيرون بمادّيات الحياة وانهمكوا بالتطاول في البنيان؛ يظلّ في المجتمع أفراد أنقياء حملوا على عاتقهم فعل ما يجب علينا جميعًا فعله، وأبدعوا أيّما إبداع في تعويض تقصيرنا، بارك الله في جهودهم، ونفع بهم البلاد والعباد.
 
الراية القطرية - الاثنين 15/4/2013 م

الأحد، 7 أبريل 2013

Rock Bottom (2-2)

يقول أحدهم: اللحظة الحاسمة التي جعلتني أتخلص من إدمان المخدرات هي حين أوشكت أن أفقد أغلى ما أملك: عقلي، أفزعتني فكرة أنني قد أجن، عندها قرّرت أنني قد اكتفيت حقاً من الإدمان وهرعت باكياً إلى أقرب شخص لأترجاه كي يساعدني في إسكات الأصوات التي بدأت أسمعها في رأسي.
 
حين يتدهور وضعنا إلى الحد الأقصى ولا نتصور أن من الممكن أن يزداد سوءاً، كأنما ارتطمنا أخيراً بالصخرة في قعر الحفرة بعد انحدار طويل، لم يعد من الممكن النزول أكثر من ذلك فاضطررنا أخيراً للصعود، هذه هي الحالة الذهنية المسماة Rock Bottom التي نقرّر فيها أننا قد اكتفينا، قد يكون الوضع على درجة عالية من السوء فيخيل للمرء أن الموت أجمل من الاستمرارعلى ما هو عليه.
 
تختلف حدة هذه التجربة من شخص لآخر، البعض يمر بها حين يخسر أو يكاد أن يخسر شيئاً لا يتصور حياته بدونه، يتجلى له فيها أسوأ كوابيسه في حال يقظة، تُمثل لدى البعض دخول السجن ليفهم أخيراً أن عليه مواجهة مشاكله المالية، آخرون لحظتهم الفاصلة هي حين يفاجأون بخيانة شريك العمر فيتمكنوا أخيراً من التخلص من شباك التعلق بشخص لا يستحقهم، البعض لحظة الفهم لديه هي حين يُطرد من عمله ويجد نفسه عاطلاً.
 
كما أن هناك من لا يحتاج الكثير ليفهم الدرس، البعض لا تعدُ نقطة التحوّل في حياته نظرة خيبة أمل من أبيه أو دمعة من عين أمه، البعض تكفيه كلمة استهزاء واحدة ليقرّر أن يتغير، آخرون غيرّتهم آية قرآنية مرّت على مسامعهم أو فقرة من كتاب أو حتى مشهد تمثيلي عابر.
 
على الجانب الآخر هناك من لا يريد أن يستوعب دروس الحياة وصفعاتها المتتالية، يذكرني بذلك شخص خسر في سبيل اتباع هواه صحته، تركته زوجته الصالحة، طُرد من وظيفته، خسر الكثير، ولم يستشعر تلك اللحظة الحاسمة حتى قُبِضت روحه، لم يتأمل حاله بتمعن في حياته وأغلق قلبه عن كل محاولات الإصلاح الجادة، لحظة الصحوة لديه أتت متأخرة كثيراً، دفع عمره ثمنها.. حرفياً.
 
يكون ثمن لحظة التغيير فادحاً أحياناً، غالِ لدرجة أن نتساءل هل تستحق الحقيقة أن ندفع ثمنها هذا كله؟ رأيي الشخصي أن الثمن أياً كان يستحق أن يُدفع طالما أننا مازلنا على قيد الحياة ونستطيع إصلاح ما يمكن إصلاحه من أخطائنا قبل الموت، لأن الحياة وإن أنقصت خسائرنا منها الكثير فهي في كل الأحوال غير كاملة.
 
رُبَّ محنة منحة، يحتاج الإنسان أحياناً للمحن التي تشعل داخله ضوءً ما وتدفعه دفعاً إلى تعديل مسار حياته في التخلص من القيود التي كبّل نفسه بها، ولكن ليس من الحكمة أن نؤخر التوبة أو التخلص من الإدمان وغيره حتى تحين تلك اللحظة، لأنها قد لا تأت أبداً، يجب أن لا ننتظرها وإنما نسعى لصنعها بأيدينا إن لم تُقّدّم لنا على طبق من المرض يرغمنا على ممارسة الرياضة أو تزف لنا في جنازة صديق لنعرف أن العمر قصير.
 
إن مررت بلحظة الصحوة لاتتجاهلها، استشعرها واسمح لها أن تغيّر حياتك، أما إن لم تجدها فأوجدها ولا تؤجلها، فنحن لا نملك صلاحية تحديد وصولنا لتلك المرحلة، ولذلك فرغم إعجابي بقوة تأثير هذه اللحظة إلا أنني أؤمن أن في انتظارها سذاجة لا متناهية.
 
الراية القطرية - الاثنين  8/4/2013 م