الأحد، 30 ديسمبر 2012

رحلة إلى وطن من نوع آخر

يفتخر بأسفاره الكثيرة التي امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها، لايدع أي فرصة للسفر مهما قصرت المدة إلا استغلها، وأثناء رحلاته العديدة إلى بقاع الأرض المختلفة تمر الطائرة دائماً على بقعة وحيدة لم تطؤها قدماه.
 
يراها على الخارطة في شاشة الطائرة أمام مقعده، ورغم أن الطائرات تتجه لها يومياً من كل مكان إلا أنه لم يكن على متن أي منها، يتجاهلها رغم أن المؤشر الأحمر يتجه نحوها هي بالذات، يتجاهلها رغم أنه يصلي خمساً يومية باتجاهها.
 
في الوقت الذي يدفع فيه الكثيرون الغالي والنفيس في سبيل الوصول إلى تلك البقعة المباركة، فيقطعون البحار والجبال، ويبيعون ممتلكاتهم المتواضعة، وربما قضوا السنين الطوال في جمع المال لتذكرة طيران واحدة، يوجد آخرون لاتفصلهم عن بيت الله الحرام سوى سويعات قليلة، يتمتعون ببسطة في العلم والجسم، لكنهم بخلوا على أنفسهم بفضل عظيم.
 
لاتحرم نفسك لذة الابتعاد عن هذه الدنيا ومافيها والفرار إلى الله، يحتاج كل إنسان إلى رحلة روحية يغسل فيها ما اعتراه من خسائر وهموم، ويسجل فيها امتنانه للكريم الرزاق، هي رحلة يتجدد بها العهد، رحلة من وطن إلى وطن من نوع آخر.
 
منظر الأكفان المحمولة على الأكتاف وهي تطفوا بخفّة بين أفواج ضيوف الرحمن منظر مهيب، ذلك أن هؤلاء يُزفون إلى جوار الكريم ويصلى عليهم في بيته سبحانه، يغبطهم على هذا الشرف زوار هذا البيت فكأنما انقلبت موازين الدنيا إذ يُغبط الميت على موتته مهما كان صغيراً، لكنها الموازين الحق..موازين الآخرة الباقية.
 
وكما يقال فنحن أصلاً غريبون في هذه الحياة على هذا الكوكب في هذه المجرة، الجنة هي الوطن الأم الذي خرجنا منه لنغترب هنا حتى نعود هناك، بل إن مايشعر به الإنسان في الدنيا من ضيق قد يكون من أعراض الغربة وشوقاً إلى موطنه الأصلي حيث كان أبوه آدم عليه السلام، فالإنسان لايمل من الوطن إلى درجة أن يريد تركه للأبد، لكن الكثير من الطاعنين في السن يصرحون بأنهم سئموا حقاً من العيش ويرغبون في الرحيل أخيراً بلاعودة، حيث أن مدة الاغتراب لديهم طالت كثيراً (بطول أعمارهم) مما أطال مدة ابتعادهم عن الجنة وطنهم الأول حيث الراحة الحقيقية.
 
يوافق نشر مقالي اليوم الأخير من عام 2012، أكتبه من جوار الحرم المكي حيث يطوف الإنس حول البيت العتيق وفوقهم ملائكة كرام يطوفون في السماء السابعة حول البيت المعمور، تحت هذه السماوات المفتوحة يبدو كل شيء ممكناً، ويبدو من الممكن جداً أن يختلف هذا العام عما سبقه، اللهم فرج عن المسلمين.
 
جريدة الراية القطرية- الإثنين 31/12/2012 م
 

الأحد، 23 ديسمبر 2012

ماعندي وقت

لو طلب منك رئيسك في العمل مهاما يستغرق إتمامها ساعة يومياً لمدة أسبوع لتمكنت من التصرف لخلق هذه الساعة مهما ازدحم يومك، لو تعرض قريبك لحادث لتمكنت من إيجاد الوقت لعيادته في المستشفى يومياً حتى يتعافى، لو أصبت بمرض يعالَج بالرياضة لوجدت الوقت لممارستها بانتظام.
 
ستتمكن من القيام بالأنشطة أعلاه مع حفاظك على مواعيد الصلوات، لن يخلو جدولك هذا من النوم والأكل وغير ذلك من الأساسيات، بل قد تتمكن من القيام ببعض الكماليات كالاطلاع على مواقع التواصل الاجتماعي، ستجد الوقت لاشتهاء قطعة حلوى من مقهى بعينه تشد رحالك إليه، وربما توقفت أثناء طريقك عند محل حلاقة لتغيير قَصة شعرك بلا مناسبة.
 
أحاول تفادي استخدام عبارة "ماعندي وقت" لأنني أسمعها من أكثر الناس تضييعاً للوقت ولا أكاد أسمعها من أكثرهم إنجازاً، رغم أن الوقت هو ذاته لدى الطرفين، لعل الترجمة النفسية لجملة "ماعندي وقت" هي "ليس لدي الدافع لإيجاد الوقت" أو "أتكاسل عن بذل الجهد لإتمام هذا الأمر".
 
كثيراً ما يُحَدث الإنسان نفسه بعبارات مثل: "الوقت ضيق"، و "لا بركة فيه"، وغير ذلك من القناعات التي نزرعها في مجتمعاتنا بترديدها بشكل مكثف لنبرر بها سوء إدارتنا للوقت، ونحن بذلك نجذب مزيداً من الانشغال المفتعل الذي لا إنجازات تذكر من ورائه، الانشغال الإيجابي يقاس بالأمور المنجزة لا بمجرد مرور الوقت، فالوقت مار لامحالة، يقول المخترع توماس أديسون "كونك مشغولاً لا يعني دائماً قيامك بعمل حقيقي".
 
التعذر بالانشغال لتبرير الخيارات الرديئة في الحياة أمر يقع فيه الجميع، قد ينشغل شخص عن السؤال بشكل أكبر عن المرأة التي يود الاقتران بها فيدفع ثمن انشغاله هذا عمراً من التعاسة وربما وجد متسعاً من الوقت فيما بعد للجوء إلى خدمات الاستشارات العائلية، كم من شخص وقع فريسة السمنة لادعائه الانشغال عن الرياضة، وكم أصيب أفراد بأمراض مزمنة لتعذرهم بالانشغال عن شراء الطعام الصحي واستبداله بالوجبات السريعة، رغم أنهم بعد أن يصابوا بالأمراض سيجدون للعلاج أو الرياضة وقتاً يومياً أطول مما قد تستغرقه الرياضة وإعداد الطعام الصحي على مدى السنوات السابقة.
 
يقول الكاتب الصيني لين يوتانغ "المشغول ليس حكيماً و الحكيم ليس مشغولاً" ، وإن لم تجد في نفسك الحكمة الفطرية لإدارة وقتك فبإمكانك اكتساب مهارات إدارة الوقت عن طريق الدورات أو الكتب وغير ذلك، سيكون من الطريف حقاً لو كان الرد على هذا الاقتراح : "ماعندي وقت".
 
الراية القطرية - الإثنين 24/12/2012 م

الاثنين، 17 ديسمبر 2012

شيء معين

حين كنت طفلة في بداية تعلمي للكلام كنت كعادة الصغار كثيرة البكاء، وعند احتدام بكائي يوماً سألني أبي بنفاد صبر: "هل هناك شيء معين تريدين الحصول عليه!؟" وذلك في محاولة يائسة لإسكاتي بلغة الكبار، فهدأت ورددت بالإيجاب، فتفاجأ وسألني مستبشراً "حسناً، ماهو؟!" قلت: "أريد.. مُعَيَّن".
 
وظلت هذه الحادثة مادة للضحك في العائلة حتى كبرت وعرفت أن بحثي عن المعين لم يتوقف يوماً، إلى أن وجدت بعضه في الكتابة عن النفس الإنسانية، فأصبحت بين أيديكم كل اثنين، ورغم تواضع كتاباتي لكنها بالنسبة لي حالة وجدانية تمنحني السلام الداخلي.
 
ذلك الشيء المعين هو ما يبحث عنه الجميع، وهو يختلف باختلاف اهتماماتهم، كل إنسان بحاجة إلى شغف لذيذ يشعل في داخله رغبة الحياة، قد يكون هذا الشيء المعين الذي تحتاجه متعلقاً بطموحك الأكاديمي وتعطشك الدائم للمعرفة، آخرون يبحثون عن شيء معين يحقق لهم أمانا ماديا كالتجارة، الشيء المعين هو شغف يشغل صاحبه ويشعره بالمتعة.
 
البعض استطاع اكتشاف ذلك الشغف وربما وجد وظيفة تتعلق به فأصبح شغفه مصدر رزقه مما جعله من السعداء، البعض الآخر وجده واكتفى به كهواية يخصص لها من وقته ويواجه بها ضغوطات الحياة، وهناك من الناس من تعددت اهتماماتهم فأصبحت حياتهم مزدحمة بالأحداث الممتعة.
 
على الجانب الآخر، هناك أفراد لم يجدوا بعد ذلك الشيء المعين الذي يسعدهم القيام به، وهناك من عاش ومات دون أن يجده، ما أتعس الحياة حين تعيشها بلا شيء يثير اهتمامك وتستمتع بالقيام به، إن غياب ذلك الشيء يعني غياب الرغبة المشتعلة في عروق الإنسان؛ التي تحرك كل جوارحه وتحقق له الإثارة التي تشعره أنه حي.
 
لكي تعرف الشغف الذي يناسبك عليك أن تبحر في رحلة لاستكشاف الذات، قد تكون محباً للحيوانات مثلاً فتبحث عن أنشطة متعلقة بهذا الشغف، وهناك من لديه شغف مساعدة الآخرين فيشغل وقته بالتطوع وتقديم الخدمات مما يمنحه السعادة، آخرون لديهم شغف متعلق بالصحة ويسعون لاكتساب المزيد من المعلومات للعيش بأسلوب حياة صحي أكثر، أياً كان الشغف الذي يحركك ومهما كان بسيطاً في نظر الآخرين؛ تمسّك به.
 
جريدة الراية القطرية - الإثنين  17/12/2012 م
 

الأحد، 9 ديسمبر 2012

الرياضة هي الحل

يقول الشاعر سعد علوش في مطلع قصيدته (ألعب حديد):
 
"ماهو علشان الجسم..
ولا علشان النسم..
عشان هالراس العنيد : ألعب حديد "
 
"..وأقول لا طاح الأرق مع العرق:
هل من مزيد؟ "
 
ومما تتحدّث عنه القصيدة دور المجهود الجسدي في حماية الإنسان من الآثار السلبيّة لضغوطات الحياة، أو في حمايته من نفسه في مواجهة الصراعات الداخليّة.
 
العرق هو الدموع التي يذرفها الجسد ليُخلّصنا من سموم الفكر أو تراكمات الماضي أو إحباطات الحاضر، العرق بكاء من نوع آخر؛ نوع صحي يُساعد في التنفيس عن الغضب وتفادي المزيد من الخسائر التي قد يتسبّب بها الإنسان لنفسه إن لم يجد مُتَنفّسًا آخر لتفريغ المشاعر السلبيّة.
 
للرياضة فوائد جمّة لست بصدد ذكرها الآن، أُركّز في هذا المقام على فائدتها النفسيّة، ومن خبرتي الشخصيّة المتواضعة في بداية مشواري مع الرياضة أنها تخلق في داخل الإنسان ضوءًا ما، تسارع ضربات القلب يجعل الروح مقاتلة ومتحفّزة لإنهاء كل مابَدَأَته على صُعد الحياة المختلفة، هذا عِوضًا عن مفعولها السحري في تعزيز الثقة بالنفس.
 
أكاد أجزم بوجود صلة بين لياقة الجسد وخشوع الروح، فحتى في وقت الحج أو العمرة حين يكون الإنسان أبعد ما يكون عن الدنيا وفي أطهر بقاع الأرض فإن الله يُريد منه القيام بمجهود بدني لن يتمكّن من القيام به دون مساعدة إلاّ إذا تمتّع بلياقة عالية كالطواف حول الكعبة سبع مرات تتضاعف مسافتها مع الازدحام، وكالسعي بين الصفا والمروة في سبع أشواط تتخللها هرولة.
 
وقد وردت أمثلة كثيرة عن الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم كمواظبتهم على قيام الليل الطويل وكمهاراتهم الحربية المُذهلة وغيرذلك ما يستدل منه- باستخدام كلمات هذا الزمان- على أجسامهم الرياضيّة ولياقتهم العالية.
 
ومن الأمثلة الغربية الحديثة سيدة أمريكا الأولى ميشيل أوباما التي تبدو على درجة عالية من الهدوء والبشاشة رغم أن النقّاد يُحاصرونها بالتنقيب عن عيوب في كل ما تفعله أو حتى ترتديه، هذا عوضًا عن حساسية وضعها السياسي، تحدّثت السيدة أوباما عن علاقتها بالرياضة قائلة: "الرياضة مهمّة حقًّا بالنسبة لي، إنها وصفة علاجيّة، فأنا كلما شعرت بالتوتّر أو القلق أو شعرت بأنني على وشك التعرّض لانهيار؛ أحضر جهاز الآيبود الخاص بي وأتوجّه فورًا إلى الصالة الرياضيّة، أو أركب دراجتي في جولة بمحاذاة بحيرة ميشيغين مع البنات".
 
أرى أن الشخص الذي لا يستطيع من إلزام نفسه بممارسة أي مجهود هو شخص في الحقيقة أمامه مشوار طويل من تدريب الإرادة وتهذيب الذات، يقول جاك لالين Jack LaLanne خبير اللياقة البدنية الشهير: "أنا أُمارس الرياضة كعلاج، كشيء يُبقيني حيًّا، كل منّا يحتاج لبعض التأديب، وأنا أُؤدب نفسي بالرياضة".
 
جريدة الراية القطرية - الإثنين 10/12/2012 م
 

الأحد، 2 ديسمبر 2012

اترك مسافة

نحن لا نتحكم بمزاج سائق السيارة التي أمامنا إن أراد التوقف فجأة، فإن لم نترك بيننا وبينه مسافة يكون اللوم علينا عند الاصطدام، لا تتوقع من الآخرين أن يقوموا بأدوارهم على أكمل وجه، أنت لست مسؤولاً عن أخطائك فحسب وإنما عليك كذلك حماية نفسك من أخطائهم، فأنت الشخص الوحيد القادر على توفير البيئة الآمنة لذاتك.
 
بشكل أو بآخر نحن شاركناهم ما ارتكبوه في حقنا، لن أسألك عن الصديق هجرك ولكن أسألك لماذا لا يوجد في حياتك مصدر آخر للفرح، لن أسألك عن الحبيب الذي آذاك ولكن أسألك من الذي فتح له الباب وسمح له أن يلعب بك، لن أسألك عن الابن الذي خذلك ولكن أسألك لماذا رفعت سقف توقعاتك عالياً.
 
أتجنب الإشفاق على من يشتكي من أخطاء الآخرين في حقه وإن كان ذلك الشخص هو أنا، لأن الحياة أعطتني من الدروس ما جعلني أرى في لوم الآخرين ضعفاً ومضيعة عمر، لا أتحدث هنا عن الظلم الصارخ في حق من لاحول لهم ولا قوة، بل أرى في الاستهانة بذلك قسوة ولا إنسانية، ولكن أتحدث عما كان بالإمكان تفاديه، أتحدث عن الفرص التي منحناها لهم ليُمعنوا في إيذائنا أكثر، أتحدث عن الباب الذي فتحناه بأيدينا ليدخلوا منه سكاكينهم، إنه المنطق الذي يحتم عليك حماية نفسك ويذكرك مراراً وتكراراً أن لا تثق بأحد، وكما يقال: حتى ظلك يتخلى عنك في الأماكن المظلمة.
 
ولأترك التشبيهات جانباً، فأنا أتحدث تحديداً عن زميل العمل الذي كشفت أمامه نقاط ضعفك ليستخدمها ضدك في أول اجتماع، أتحدث عن الحساب البنكي المشترك مع زوج يستخدمه في شراء هدايا للصديقات، أتحدث عن الزوجة التي كشفت عيوب أهلها أمام زوجها ليعيّرها بهم عند أول خلاف، أتحدث عن الغباء، عن السذاجة، عن الإهمال، سمها ما أردت، فأنا وأنت نعرفها جيداً.
 
لابد أن يترك كل إنسان مسافة من المنطق تمنحه الأمان وتحول بينه وبين أذى الآخرين له أو حتى أذاه هو لنفسه، علمتني أمي وأنا صغيرة أن أفكر جيداً قبل القيام بأي تصرف كي لا أندم، الأمر حقاً بهذه البساطة، التفكير بروية هو مسافة المنطق التي ينبغي أن تحول بيننا وبين أخطائنا أو أخطائهم في حقنا، أترك مسافة من المنطق بينك وبين كل شيء، بينك وبين أعدائك وزملائك وأصدقائك وحتى أقرب الناس إليك، والأهم من ذلك: أترك مسافة من المنطق بينك وبين قلبك.
 
 
جريدة الراية القطرية - الإثنين 3/12/2012 م