يفتخر بأسفاره الكثيرة التي امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها، لايدع أي فرصة للسفر مهما قصرت المدة إلا استغلها، وأثناء رحلاته العديدة إلى بقاع الأرض المختلفة تمر الطائرة دائماً على بقعة وحيدة لم تطؤها قدماه.
يراها على الخارطة في شاشة الطائرة أمام مقعده، ورغم أن الطائرات تتجه لها يومياً من كل مكان إلا أنه لم يكن على متن أي منها، يتجاهلها رغم أن المؤشر الأحمر يتجه نحوها هي بالذات، يتجاهلها رغم أنه يصلي خمساً يومية باتجاهها.
في الوقت الذي يدفع فيه الكثيرون الغالي والنفيس في سبيل الوصول إلى تلك البقعة المباركة، فيقطعون البحار والجبال، ويبيعون ممتلكاتهم المتواضعة، وربما قضوا السنين الطوال في جمع المال لتذكرة طيران واحدة، يوجد آخرون لاتفصلهم عن بيت الله الحرام سوى سويعات قليلة، يتمتعون ببسطة في العلم والجسم، لكنهم بخلوا على أنفسهم بفضل عظيم.
لاتحرم نفسك لذة الابتعاد عن هذه الدنيا ومافيها والفرار إلى الله، يحتاج كل إنسان إلى رحلة روحية يغسل فيها ما اعتراه من خسائر وهموم، ويسجل فيها امتنانه للكريم الرزاق، هي رحلة يتجدد بها العهد، رحلة من وطن إلى وطن من نوع آخر.
منظر الأكفان المحمولة على الأكتاف وهي تطفوا بخفّة بين أفواج ضيوف الرحمن منظر مهيب، ذلك أن هؤلاء يُزفون إلى جوار الكريم ويصلى عليهم في بيته سبحانه، يغبطهم على هذا الشرف زوار هذا البيت فكأنما انقلبت موازين الدنيا إذ يُغبط الميت على موتته مهما كان صغيراً، لكنها الموازين الحق..موازين الآخرة الباقية.
وكما يقال فنحن أصلاً غريبون في هذه الحياة على هذا الكوكب في هذه المجرة، الجنة هي الوطن الأم الذي خرجنا منه لنغترب هنا حتى نعود هناك، بل إن مايشعر به الإنسان في الدنيا من ضيق قد يكون من أعراض الغربة وشوقاً إلى موطنه الأصلي حيث كان أبوه آدم عليه السلام، فالإنسان لايمل من الوطن إلى درجة أن يريد تركه للأبد، لكن الكثير من الطاعنين في السن يصرحون بأنهم سئموا حقاً من العيش ويرغبون في الرحيل أخيراً بلاعودة، حيث أن مدة الاغتراب لديهم طالت كثيراً (بطول أعمارهم) مما أطال مدة ابتعادهم عن الجنة وطنهم الأول حيث الراحة الحقيقية.
يوافق نشر مقالي اليوم الأخير من عام 2012، أكتبه من جوار الحرم المكي حيث يطوف الإنس حول البيت العتيق وفوقهم ملائكة كرام يطوفون في السماء السابعة حول البيت المعمور، تحت هذه السماوات المفتوحة يبدو كل شيء ممكناً، ويبدو من الممكن جداً أن يختلف هذا العام عما سبقه، اللهم فرج عن المسلمين.
جريدة الراية القطرية- الإثنين 31/12/2012 م