الأحد، 25 مارس 2012

أشغل نفسك



قالت لي صديقة يومًا: أتعلمين أنني أكره إجازة نهاية الأسبوع، رغم أنها الوقت الذي أنتظره بفارغ الصبر لأرتاح بعد عناء العمل إلا أنه الوقت الذي فيه أكره حياتي وأتشاجر مع زوجي أسبوعيًا، في هذه الإجازة يتضح أمامي جليًا وبعد فوات الأوان أنني قد أخطأت في الاختيار! ذكرني كلامها بمقولة برنارد شو: "الطريقة الوحيدة لتجنب التعاسة هي أن لايكون لديك وقت فراغ تسأل فيه نفسك إن كنت سعيدًا أم لا".

وقد كشفت دراسة نشرها موقع متخصص في الصحة والطب (ميديكال نيوز توداي) أن الأشخاص الذين لديهم شيء يفعلونه مهما كان تافهًا هم أسعد من أولئك الجالسين مكتوفي الأيدي، كما توصّلت الدراسة عبر عدد من الاختبارات النفسية لعدد من المتطوعين أن الأفراد يريدون حقًا أن يكونوا مشغولين ويحبون ذلك ولكنهم لايعترفون بالأمر أمام المجتمع بل يبررون انشغالهم وكأنهم مضطرون له.

كثير من الأفراد الناجحين في المجتمع هم نتاج بيئة أسرية طاردة، بل إن الكثير ممن قدموا للبشرية خدمات جليلة هم أنفسهم لم يجدوا في حياتهم الخاصة من يحنو عليهم ويسعدهم، ولعل سعيهم المتواصل للانشغال بالمجتمع كان دافعه رغبة دفينة في التعويض عن فشلهم على الصعيد الشخصي، وربما لم يكن كذلك، وفي الحالتين فهم انشغلوا بإنجازاتهم وتركوا وراءهم إرثًا خلّد أسماءهم.

ولأنني من أنصار المواجهة ولا أحبذ الهروب فأنا أرى أن من غير الصحي أن يغرق الإنسان نفسه في العمل فيدمن عليه كي يتفادى الصدامات التي لابد ستلحق به في نهاية المطاف، ولكن على الجانب الآخر فالانشغال عن المشكلة بشكل جزئي قد يكون آلية للتأقلم مع الوضع وليس استسلامًا له، فليس لكل مشكلة حل وإنما بعض المشاكل يكمن حلها في تجاهل وجودها أو بمعنى آخر التأقلم معها لاسيما إن لم يكن أحد طرفيها على استعداد لمعالجة الوضع، كما قد يؤدي الانشغال عن المشكلة إلى حلها حيث يوفر فرصة للتخلص من الانفعالات فيتمكن الإنسان من إصلاح الخلل بعقلانية.

ليس شرطًا أن يكون انشغال المرء عن مشاكله بالعمل المرهق، بل قد يكون انشغاله بهواية ما، وقد يكون انشغاله بجدوله اليومي كذلك فنحن نستطيع أن نخلق لأنفسنا حياة أخرى ضمن حياتنا اليومية نحدد بها ما نحتاج ممارسته بشكل منتظم ونلزم به أنفسنا، البعض لايمكن أن يمر عليه يوم دون أن يمارس رياضة ما، وآخرون لايبدأ يومهم إلا بقراءة جزء من القرآن، وكثير من الناس يملأون حياتهم بالأنشطة والفعاليات التي تضفي عليهم مرحًا ونشاطًا يشغلهم عن التفكير في حدث مؤلم عايشوه في طفولتهم، أو شريك حياة لم يتمكنوا من مسامحته على أمر ما.

بمعادلة بسيطة فإن الانشغال يلغي الفراغ، والفراغ هو أصل الكثير من الشرور،من المنطقي أنك إن أشغلت نفسك بأمور عديدة في اليوم الواحد فلن تشعر بالملل الذي قد يزين الشيطان كسره بمعصية ما، ولن تجد في نفسك طاقة تسهرك الليل حزنًا على مشاكلك الشخصية ، بل ستغط في نوم عميق مريح بعد عناء يوم مليء بالإنجازات.

أميل إلى أن يجنّد الإنسان نفسه للخير وتعمير الآخرة، فينشغل بذلك حتى يموت، أما "متى يجد العبد طعم الراحة؟" فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن ذلك فأجاب: "عند أول قدم يضعها في الجنة".

جريدة الراية - الإثنين26/3/2012


الأحد، 18 مارس 2012

هكذا تنتحر


هناك طرق كثيرة ومجربة كي ينهي الإنسان حياته، الغالبية من البشر يختارون الطرق التي يطول زمنها ويقل ألمها، والبعض في مجتمعات أخرى يلجأون لطرق أكثر صرامة فينهون حياتهم في الحال، أتحدث هنا عن الطرق التي يستخدمها أفراد مجتمعي المسلم المحافظ، ليعذرني من انزعج من فظاظتي ولكني أردت اليوم أن أسمي الأمور بمسمياتها ولم أجد وصفاً ملائماً أكثر من الانتحار، صحيح أنك لن تموت إلا في يومك،ولكن بيدك أحياناً أن لاتكون متسبباً في موتك، بيدك أن لاتجعل حزنهم في عزائك مختلطاً بعتب دفين ولوم غاضب، وربما شعروا أنهم قد قصّروا في توعيتك، هذا الشعور لوحده موت آخر، فلاتعرضهم لذلك.

-إن كنت تمارس قيادة السيارة بلامبالاة، فتسرع أو تتسابق، وتتفنن في إرسال اللطائف والطرائف عبر الواتساب و البلاكبيري وغيرهما.. فأنت تنتحر!

-إن كنت قد استسلمت لزيادة الوزن، ولم تسمح لأحبتك أن ينتشلوك مما أنت فيه، فأمعنت أكثر في إيذاء صحتك، وأرغمتهم على متابعة حالتك بقلق وأنت تكبر حجماً أمام أعينهم، وسقطت فريسة أمراض القلب وغيرها.. فأنت تنتحر!

-إن انغمست في التدخين، وتعالى صوت سعالك الذي يقطع أفئدة أحبتك، وبدأت شفتيك في التلوّن البغيض، وربما تسلل المرض إلى رئتيك.. فأنت تنتحر!

-إن كنت مصاباً بمرض مزمن كالسكري وغيره، وتهاونت في أخذ الدواء واتباع إرشادات الطبيب، ولم تبال بكل توسلات أحبتك.. فأنت تنتحر!

هذا عوضاً عن الأسباب الأخرى النفسية التي لاتقل خطورة عن ماسبق كالتعايش المرير مع شريك حياة سيئ يترك شريكه فريسة للأمراض النفسية والعضوية حتى يمتص آخر قطرة حياة منه، وكالاستسلام للاكتئاب وغيره دون بذل مجهود جدي للعلاج.

إلى كل المنتحرين الأحياء، لا أشفق عليكم بقدر ما أغضب منكم، من منحكم حق حرق قلوب الأمهات والآباء؟ من أجاز لكم التهاون في حياة يشارككم فيها آخرون؟ كيف هان عليكم الاستسلام للوضع أمام توسلات الأحبة والانغماس أكثر في إيذاء النفس وتعريضها لمختلف المخاطر والشرور؟

يؤلمني حال الأم التي ينتفض قلبها مع كل صوت سيارة إسعاف لأنها تعلم أن فلذة كبدها سائق متهور، فتسارع بالاتصال به مع كل صفارة انذار، ولايهدأ فؤادها إلا إن سمعت صوته وتأكدت أن سيارة الإسعاف لم تكن في طريقها إلى جثته، أما إن لم يرد على الاتصال (لأي سبب كان) فهذا هو الرعب بعينه.

يؤلمني حال الابن الذي يقضي الساعات ليبحث عبر الانترنت عن وسائل ينقذ بها أبيه من إدمان التدخين، ويضطرب فؤاده مع كل صورة مرعبة تظهر أثناء بحثه لمدخنين أصيبوا بأمراض مميتة، فيطبع الصور ويحاول بلا طائل إنقاذ أبيه من هذا الوضع، وربما ذهب إلى الصيدلية بما لديه من مصروف ليشتري لأبيه هدية كعلكة نيكوتين أو ملصقٍ ما!

من المخجل أن نتابع أخبار استشهاد الأبطال عبر شاشات الأخبار، بينما تحصد الممارسات اللامبالية أرواح أبنائنا ولانبذل جهداً إعلامياً كافياً لتوعيتهم بقيمة حياتهم الغالية علينا وعلى الوطن.

"إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت.. إنها قضية الباقين!" غسان كنفاني.

جريدة الراية-الإثنين19/3/2012

الأحد، 11 مارس 2012

هل تقدّر الناس؟

يقول أنيس منصور "ما دمت لاتقدّر أحداً فكيف تغضب لأن أحداً لايقدرك؟" ، ذكرتني مقولته بالمواقف التي كِلتُ فيها بمكيالين فطالبت بتقديرٍ ما في الوقت الذي قصّرت فيه في تقدير أمرٍ آخر، حقاً إن العين التي تلاحظ جهود الآخرين هي وحدها من تستحق أن يلاحظها الآخرون، وليست العين الأنانية التي لا ترى إلا صاحبها وتعيش وهم أنه محور الكون.

كيف هان على إحداهن أن تعود من دعوة عشاءٍ أوحفلةٍ ما فتنتقد مذاق أحد الأطباق أوتسخر من أمرٍ ما كأثاث المنزل أوملابس صاحبته، ألم يدر ببال الزائرة كم استنزفت صاحبة الدعوة من الوقت والجهد للتجهيز لتلك المناسبة بكل تفاصيلها من إعداد للطعام وتهيئة للمكان، وكم وقفت أمام المرآة لتختار ما سترتديه بعناية، هي جهودٌ بُذِلت ثم هُمِّشت بدم بارد، مهما اختلفت الأذواق فالتعب المبذول جهدٌ يستحق الإشادة أوحتى الإشارة ، وعلى أقل تقدير يستحق أن نمتنع عن التعليق إن كنّا لا بد سنتحدث عنه بسوء، مع العلم أن تلك التعليقات السلبية قد تدخل ضمن الغيبة وتنم عن حالة متقدّمة من قلة الذوق.

وفي موقف آخر قالت لي إحداهن: "هل تصدّقين أن خادمتي قد نظفت الحائط الخارجي للمنزل؟! يا له من مجهود متعب وضائع.. فالجوعاصف وسيتجمع الغبار في كل الأحوال، ثم إن أحداً لم يطلب منها ذلك ولكنني أعتقد أنها تحب أن تتعب نفسها تلك الغبية!" تذكّرتُ حينها أن هذه المرأة هي نفسها كانت تتذمر من مديرها في العمل لعدم تقديره ما تبذله من جهود مميزة تبادر لها دون أن يطالبها بها أحد، حيث تعمل ساعات إضافية دون مردود مالي، وتساءلتّ كم مرة مَنَحَت لخادمتها زيادة في الراتب بسبب الخدمات المستحدثة أوبسبب الأوقات التي تم قطع نومها فيها لتعمل ساعات إضافية دون مراعاة بشريتها وحاجاتها البيولوجية كالنوم والنفسية كالتقدير.

إن المواقف اليومية التي يفوتنا فيها تقدير جهود الآخرين كثيرة، فالنادل الذي يتفنن في خدمة زبائن المطعم ويستقبل ملاحظاتهم الدقيقة والمزعجة أحياناً بسعة صدر، ويستحمل لومهم له على ارتفاع الأسعار وكأنه هومن وضعها، بل ويرسم على وجهه ابتسامة عريضة رغم كل ما قد يشعر به حقاً؛ فهويستحق إكرامية تعبّرعن تقديرك لجهده الكبير في مقابل راتبه الضئيل، والسائق الذي يفسح المجال لسيارتك كي تمر يستحق إيماءة شكر تقدّر بها مراعاته لوضعك في السير، والطالب الذي يَهبّ ليمسح السبورة جيداً كي يوفّر وقت الحصة ولتتمكن أيها المدرس من الكتابة عليها بوضوح وسلاسة يستحق أن تربّت على كتفه تقديراً لمبادرته وإتقانه.

نُمَحوِر الكون حولنا أحياناً دون أن نشعر فننشغل برغباتنا واحتياجاتنا، ونركّز تعاطفنا على أنفسنا فنأسف على ما تعبنا فيه ومرّ دون إشادة، ونغفل عن تقدير تعب الناس حولنا فنصبح سبباً في أن يشعروا هم كذلك بالأمر ذاته على أصعدة أخرى، هذه دعوة لخلع رداء الضحية قليلاً والنظر للموضوع بعين الجاني، فلتتذكّر في المرة القادمة قبل أن تغضب من عدم تقدير شريك حياتك لك أنك ربما غفلت عن تقديره في أمور أخرى، أليس من الأولى أن ننشغل بإصلاح أنفسنا عن محاولات تغيير الآخرين؟

جريدة الراية - الإثنين12/3/2012

الأحد، 4 مارس 2012

الموت والسفر

كثيراً ما تساءلت منذ صغري عن الفرق بين الموت والسفر الطويل، فلم أجد فرقاً كبيراً بينهما سوى الأمل بعودة الغائبين في الدنيا رغم أن الأمل قد لا يتحقق لا سيما إن كان موعد العودة غير معلوم، ولكن مجرّد وجوده كفيل بالطمأنة، بل قد يكون لقاء الإنسان بحبيب ميّت أقرب له من لقائه بحبيب مسافر فالموت يأتي بغتة، وربّما اجتمعا قبل الموعد المتوقّع في جنة عرضها السموات والأرض.

وقد يتعلق البعض بالآمال في عودة من اختفوا (ربّما بالموت) بسبب الحروب أو الزلازل أو غيرها، فيهون عليهم الفراق، وفي حالات أخرى يكون الأمل مؤلماً ويجعل الإنسان ينتظر عمره كلّه، ولعلّه تمنّى سرّاً لو أن لحبيبه قبراً ما أو أي أثرٍ حسّيٍ لرحيله كي يُسدل الستار على ذلك الفصل من حياته ويستطيع أن يعيش فترة الحزن حتى الإشباع ثم ينتهي منها بعد حين.

قد تكون الإجراءات التي يقوم بها البعض لينسى الراحلين مستحيلة التنفيذ، وقد تكون عملية ومريحة، وقد تكون في أحيانٍ أخرى فادحة يسحق بها روحه، يذكرني بها لحن حزين وصوت شجي يصدح بـ:

"حلفت عمري ما شوف صورة.. ملامح فيها من رسمك
حلفت إني ما افتح يوم.. كتاب يحمل معاني اسمك"
(ماجد سلطان)

الرعب من الذكريات هو بحدّ ذاته حالة غير صحية يجب التغلب عليها، رحيل الأحبّة تجربة كغيرها من تجارب الحياة وعلينا أن نمتلك الشجاعة لنعيشها بكل تفاصيلها فنستطيع في النهاية أن ننفض اليأس نفضاً ونمضي في حياتنا كما مضوا، لا أن يمضي العمر ونحن نخشى السير في شارع مشينا فيه معهم، فتتحوّل الأماكن إلى أشباح والذكريات إلى سكاكين.

مهما خشينا الموت وفراق الأحبّة، فإن الحياة ستستمرّ بعدهم، وسنعقد بعد حين صلحاً مع الذكريات، سنظل نتذكّرهم بشجن لذيذ ونتأثّر لفقدهم بحزن خفي، ولكن هذا لا يعني أننا أصبحنا تعساء بالضرورة، قد يمنحنا الامتنان للعمر الذي قضيناه معهم قوّة نُواجه بها الحياة وتقلبات الزمان، وقد يزرع ذلك الشوق فينا حكمة تجعلنا لا نُعطي الأمور الدنيوية أكبر من حجمها ونحرص على الاستمتاع بما تبقّى لنا من العمر مع من حولنا من أحبّه، بل قد ننتقل لمرحلة جديدة ونتجرأ فنسمح لأنفسنا بالشعور بالسعادة أخيراً.

إشكالية الفراق هي أنها تجعل الراحل أروع بكثير فنشتاق له شوقاً قد نُبالغ فيه، فالكل في البعد أجمل وأقرب للكمال، حتى السلبيات تكاد تختفي في البعد وتكون أقرب للإيجابيات، وإن كان سبب الفراق الموت فإن ذلك يجعل الأحياء أكثر تعاطفاً وتسامحاً مع من تحت التراب فتكون العيوب بحق منسية أو متناساة في هذه الحالة، فلا تدع الموت أو الغياب يُقلّلان من قيمة من حولك من الأحبّة أو يرفعان كثيراً من قدر الغائبين للدرجة التي تفشل معها في ملء بعض الفراغ الذي خلّفوه وتقضي ما تبقى من العمر وحيداً إلا من ذكريات وآسفاً على حالك وكأن وجع القلب حكر عليك من دون الناس، أُحيّي الإيمان في داخلك وتيقن من وجود حياة أبدية بعد حين تلتقي فيها بالجميع كأنهم عادوا من سفر ما.

لكل من لا يستطيع استيعاب حقيقة مفارقة شخص ما للحياة.. اعتبره مسافراً، ولكل من لا يستطيع إسدال الستار على علاقته بشخص غاب بغير الموت.. اعتبره ميتاً، فالأمر سيّان بالنسبة لك والاختلاف بينهما هو لدى الراحل فحسب.

جريدة الراية - الإثنين5/3/2012