قالت لي صديقة يومًا: أتعلمين أنني أكره إجازة نهاية الأسبوع، رغم أنها الوقت الذي أنتظره بفارغ الصبر لأرتاح بعد عناء العمل إلا أنه الوقت الذي فيه أكره حياتي وأتشاجر مع زوجي أسبوعيًا، في هذه الإجازة يتضح أمامي جليًا وبعد فوات الأوان أنني قد أخطأت في الاختيار! ذكرني كلامها بمقولة برنارد شو: "الطريقة الوحيدة لتجنب التعاسة هي أن لايكون لديك وقت فراغ تسأل فيه نفسك إن كنت سعيدًا أم لا".
وقد كشفت دراسة نشرها موقع متخصص في الصحة والطب (ميديكال نيوز توداي) أن الأشخاص الذين لديهم شيء يفعلونه مهما كان تافهًا هم أسعد من أولئك الجالسين مكتوفي الأيدي، كما توصّلت الدراسة عبر عدد من الاختبارات النفسية لعدد من المتطوعين أن الأفراد يريدون حقًا أن يكونوا مشغولين ويحبون ذلك ولكنهم لايعترفون بالأمر أمام المجتمع بل يبررون انشغالهم وكأنهم مضطرون له.
كثير من الأفراد الناجحين في المجتمع هم نتاج بيئة أسرية طاردة، بل إن الكثير ممن قدموا للبشرية خدمات جليلة هم أنفسهم لم يجدوا في حياتهم الخاصة من يحنو عليهم ويسعدهم، ولعل سعيهم المتواصل للانشغال بالمجتمع كان دافعه رغبة دفينة في التعويض عن فشلهم على الصعيد الشخصي، وربما لم يكن كذلك، وفي الحالتين فهم انشغلوا بإنجازاتهم وتركوا وراءهم إرثًا خلّد أسماءهم.
ولأنني من أنصار المواجهة ولا أحبذ الهروب فأنا أرى أن من غير الصحي أن يغرق الإنسان نفسه في العمل فيدمن عليه كي يتفادى الصدامات التي لابد ستلحق به في نهاية المطاف، ولكن على الجانب الآخر فالانشغال عن المشكلة بشكل جزئي قد يكون آلية للتأقلم مع الوضع وليس استسلامًا له، فليس لكل مشكلة حل وإنما بعض المشاكل يكمن حلها في تجاهل وجودها أو بمعنى آخر التأقلم معها لاسيما إن لم يكن أحد طرفيها على استعداد لمعالجة الوضع، كما قد يؤدي الانشغال عن المشكلة إلى حلها حيث يوفر فرصة للتخلص من الانفعالات فيتمكن الإنسان من إصلاح الخلل بعقلانية.
ليس شرطًا أن يكون انشغال المرء عن مشاكله بالعمل المرهق، بل قد يكون انشغاله بهواية ما، وقد يكون انشغاله بجدوله اليومي كذلك فنحن نستطيع أن نخلق لأنفسنا حياة أخرى ضمن حياتنا اليومية نحدد بها ما نحتاج ممارسته بشكل منتظم ونلزم به أنفسنا، البعض لايمكن أن يمر عليه يوم دون أن يمارس رياضة ما، وآخرون لايبدأ يومهم إلا بقراءة جزء من القرآن، وكثير من الناس يملأون حياتهم بالأنشطة والفعاليات التي تضفي عليهم مرحًا ونشاطًا يشغلهم عن التفكير في حدث مؤلم عايشوه في طفولتهم، أو شريك حياة لم يتمكنوا من مسامحته على أمر ما.
بمعادلة بسيطة فإن الانشغال يلغي الفراغ، والفراغ هو أصل الكثير من الشرور،من المنطقي أنك إن أشغلت نفسك بأمور عديدة في اليوم الواحد فلن تشعر بالملل الذي قد يزين الشيطان كسره بمعصية ما، ولن تجد في نفسك طاقة تسهرك الليل حزنًا على مشاكلك الشخصية ، بل ستغط في نوم عميق مريح بعد عناء يوم مليء بالإنجازات.
أميل إلى أن يجنّد الإنسان نفسه للخير وتعمير الآخرة، فينشغل بذلك حتى يموت، أما "متى يجد العبد طعم الراحة؟" فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن ذلك فأجاب: "عند أول قدم يضعها في الجنة".
جريدة الراية - الإثنين26/3/2012