الاثنين، 22 أكتوبر 2012

بين ضحكات الأمس ودموع اليوم

يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وَلاَ تَجْزَعْ فإِنْ أَعْسَرْتَ يوماً
             فقد أيسرت في الزمن الطويل
في البيت أعلاه إشارة إلى أن مصائب الحاضر لا تعني أننا لم نعش لحظات رائعة في السابق، فدموع اليوم لا تمحو ضحكات الأمس، ورصيد المشاعر الجميلة لا ينضب بل نستخرجه من داخلنا كلما عصفت بنا الحياة، برأيي لا توجد حياة سعيدة ولكن توجد حياة بها لحظات سعيدة مررنا بها ونسترجعها كلما افتقدناها.
وهذا نبي الله أيوب عليه السلام بعد أن عاش سبعين عاماً في صحة ومال وأبناء ومكانة اجتماعية عالية، ابتلي بالمرض الشديد وفقد كل أبنائه وابتعد عنه الجميع إلا زوجته، فلما طال عليه المرض قالت له: يا أيوب، لو دعوت ربك لفرج عنك، فقال لها عليه السلام: لقد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهل كثير أن أصبر سبعين سنة ؟!.
إن من سوء الأدب مع الله أن نجزع إن حَرمَنا من أمر كان قد مَتعنا به زمناً قبل ذلك، نبي الله موسى عليه السلام خرج من بلده شريداً حيث ائتمر القوم ليقتلوه، ثم بعد أن أبت المروءة إلا أن يسقي للفتاتين اللتين أرادتا من الماء الذي اجتمع عليه الرجال، وبعد أن انهكه التعب من ذلك المجهود، لجأ للراحة في الظل، ليجد نفسه غريباً في بلد لا يعرف فيه إلا الله، طريداً بعد أن كان ذا مكانة ومال، لا يملك من الدنيا إلا ما جادت به الدنيا عليه كهذا الظل في يوم شديد الحرارة.
وعلى تلك الحال ناجى نبي الله موسى عليه السلام الجبار بدعوة يتجلى فيها أدب العبد مع خالقه، جملة جعلها الله سبباً لتعود له الفتاتان من أبيهما فتخبرانه أن الأب يريد أن يكافئه على صنيعه، ثم انتهى به المطاف أن تزوج إحداهما وحصل على عمل مع ذلك الرجل الصالح، أتاه ذلك الخير بعد أن دعا بتلك الدعوة العظيمة:"رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" فكأنه يقول يا رب إنك قد منحتني في الماضي أموراً أشتاق لها الآن، لم ينس ما مر به من مريح الأيام، لم ينكر فضل الله عليه.
أما ما ذكرني ببيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقصتي أيوب وموسى عليهما السلام، فهو تدبري في كلمات القصيدة الشهيرة "المعاناة" لقائلها الأمير الشاعر خالد الفيصل وبالأخص البيتان:
ولاني بندمان على كل ما فات
                 أخذت من حلو الزمان ورديّه
هذي حياتي عشتها كيف ماجات
                    آخذ من أيامي وأرد العطية
ورغم أن القصيدة مغناة قد ينشغل سامعها بألحانها عن معانيها كحال الكثيرين، إلا أن في التفكير في معانيها كنوزاً من الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنى وجدها كان أولى الناس بها.
جريدة الراية - الإثنين 22/10/2012

الأحد، 14 أكتوبر 2012

لا تؤجل ألم اليوم إلى الغد

إن تأجيل ألم اليوم إلى الغد يجعل الآلام تتكالب علينا من الداخل لتتسرّب بعد أن يطفح الكيل إلى الخارج في صور اضطرابات نفسيّة كان من الممكن تفاديها، ورغم أنها أتت تدريجيًّا إلاّ أنها تُفاجئ مَنْ حولنا وربّما فُوجئنا نحن بها كصدمة ظهر البعير بالقشّة رغم إدراك حقيقة تحميله ما لا يطيق.

 

كلّما تهرّب الإنسان من مواجهة مشاكله حفرت تلك المشاكل وجودها حفرًا أعمق في روحه، قد يظلّ أثرها وإن انتهت لأنّها لم تُعالج في السابق، ويُمكن قياس الأمر ببعد آخرعلى الحساب الأخروي لمن لم يتب في الدنيا وإن توقف عن ذنبه، كمن ترك التدخين لأن صحّته لم تعد تسمح له بذلك لا لحرمة الأمر، يظنّ بعدها أن أمر التدخين قد انتهى ثم يُفاجأ به في صحيفته فيُحاسب عليه لأنه لم يتب وإن توقف، وكذلك مشاكلنا الدنيويّة لا تنتهي بانتهاء مددها الزمنيّة إن لم نُقرّر مواجهتها على الأقل بالاعتراف بها كخطوة أولى.

 

ومن نواتج الآلام المُهملة الاكتئاب فهو لا يدخل بالضرورة من الباب، قد يتسلل من أسفله، وربّما دخل عبر فتحات التهوية كحبيبات غبار بريئة لا تلبث أن تصير ماردًا مُهابًا، الحزن التدريجي أشدّ على النفس مما أتى بين عشيّة وضحاها، فالأمور العارضة التي لم يتم التعامل معها بالشكل المطلوب يُحكم عليها بالتأبيد في داخل الإنسان فتظلّ حبيسة الأضلع وتستقبل باستمرار ضيوفًا من الهموم المستجدّة فتتعارف الأوجاع فيما بينها وتتكاتف مكوّنة جيشًا في الصدر يرفض الاستكانة والخضوع، وربّما رفض الإنسان الاعتراف بفداحة ذلك الضيق أو علاجه، يُذكّرني بهذا الحزن وصف أدوم أنواع الحب من كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي في قوله: ".. وهذا الذي يُوشك أن يدوم ويثبت ولا يحيك فيه مر الليالي فما دخل عسيرًا لم يخرج يسيرًا".

 

الحزن بئر لا قرار لها، لا سيّارة حوله ولا وارد يُدلي دلوه، إن لم تصعد بنفسك فستستمرّ بالانحدار، وكلّما تأخّرت في الصعود تأخّرت في الوصول، السرّ أن تُرغم نفسك على التخلّص مما أنت فيه بأي شكل وإن لم تجد في نفسك الرغبة أو الطاقة لبذل المجهود اللازم، فقط استجب لفطرة المقاومة في داخلك وإن بدا الأمر آليًا ومصطنعًا، استيقظ كل صباح ومارس حياتك بشكل طبيعي حتى لو اضطررت إلى التدرّب أمام المرآة لرسم ابتسامة صغيرة، ارسم الابتسامة على وجوه الآخرين لعلّ بعضًا من توهّجها ينعكس على روحك، قُمْ بكل شيء وأي شيء، افعل ما يفعله السعداء، أو على الأقل حاول، تذكّر أنك تُحاول من أجل شخص ليس له سواك ومن الظلم أن تكون أنت والظروف عليه، شخص يستحقّ المحاولة، أنت.

 

*عنوان المقال من تغريدة للشاعر الفاضل سعد علوش

 

جريدة الراية - الإثنين /10/2012 م

http://raya.com/writers/pages/55ff2c7e-db08-4292-b9af-7be9cfb032aa

 

الأحد، 7 أكتوبر 2012

كي لاتخذلك الذاكرة

 
 
 
 
حين تخذلك الذاكرة.. ترتفع قيمة كل صورة فوتوغرافيّة التُقطت لك يومًا، لتلمسها بيدك وتتصفّح معالمها بعينيك لترى ما كان قبل أن يتغيّر وتتغيّر، لا تستصغر ما يُمكن أن تتعلّمه من شخصك القديم
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تزداد أهميّة ذلك الصديق القديم، الذي يتذكّر أمورًا قد نسيتها، يُخبرك كيف كنت، لتُقارن بين نفسك التي عرفها ونفسك اليوم.
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تحتاج رشّة واحدة من عطر قديم، أو ربّما نفحة من رائحة حنّاء أو حتى حطب محترق، ليعود بك إلى تفاصيل زمان مضى كنت فيه وساهم في تشكيل شخصيّتك اليوم، رغم أنك نسيته.
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تنتشلك من خذلانها أغانٍ أو أهازيج بصوت مغنٍّ ما، أو ربّما بصوت أمٍّ تُهدهدك صغيرًا كي تنام، الصوت وحده يعود بك إلى دفء ذلك المكان وخصوصيّته.
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تختنق العبرات مع ابتلاع لقمة لطبق سبق أن أكلت منه في فترة زمنيّة ماضية، وربّما كان هناك شخص يُشاركك تلك الوجبة، تعود بك حاسّة التذوّق إلى ذلك الزمن، وذلك الشخص.
 
حين تخذلك الذاكرة.. سيصعب عليك التعرّف على نفسك التي قد تكون أضعت بعض ملامحها في زحمة الحياة الحديثة؛ التي لا تعترف بالماضي الثمين.
 
حتى ذكرياتنا المُؤلمة نحتاج أن نسترجعها قليلاً، الألم الذي تخطّيناه دافع كبير لنستكمل درب الحياة ونحن أقوى وأكثر حكمة، من عانى من قسوة أبيه يستطيع أن يُحوّل ذلك الحرمان إلى طاقة حنان قصوى يمنحها لأبنائه ليكون هو بالنسبة لهم الأب الذي كان يتمنّى أن يحصل عليه يومًا.
 
وكي لا تخذلك الذاكرة مجدّدًا، إبدأ ببناء واقع رائع تتذكّره ويتذكّره أبناؤك فيما بعد، لا تجعل الصور حبيسة الأجهزة التي تتغيّر وتتعطّل، اطبعها لتُصبح ورقيّة تلمسها الأيدي وتُتوّجها البراويز وتحتضنها الجدران، التقط لهم صورًا عفويّة فحياتهم اليوميّة هي ما يودّون تذكّره حقًّا بعد ذلك.
 
احتفل بشقاوة الطفولة ولا تتذمّر من نعمة وجودها، لا تُصوّرهم مقيّدين بملابس الماركات وإنما صوّرهم بملابس اللعب المتسخة بوحل الحديقة قبل أن تتسخ النفوس بوحل الدنيا، لا تُصوّرهم مبتسمين للكاميرا وإنما صوّرهم مبتسمين لبعضهم قبل أن يدخل الشيطان بينهم كبارًا فيُنسيهم كيف كانوا متلاحمين صغارًا، احتفظ بأشيائهم القديمة وامنحهم الحبّ الذي يُترجمه تتويجك لكل معالم إنجازاتهم الصغيرة.
 
إبدأ ببناء تقاليد خاصّة بك وبمن حولك وإن كان الأمر ببساطة وجبة طعام معيّنة أسبوعيّة بعد كل صلاة جمعة مثلاً، الأفكار كثيرة لبناء قاعدة بيانات ضخمة من الذكريات، أنا أرى أن بإمكاننا أن نتعمّد صنع ذكرياتهم قبل أن يُصبح لكل منهم بيته وحياته مما قد يُنسيهم ماضيًا جميلاً يدفعهم لبناء مستقبل أجمل لمن حولهم.
 
جريدة الراية - الإثنين 8/10/2012 م