الاثنين، 26 ديسمبر 2011

الزواج الميت إكلينيكياً

للفئة التي يناقش وضعها هذا المقال وجود في مجتمعنا بنسبة لا يمكن للإحصائيات التوصل لها أو تقديرها، الزواج الفاشل: لا أقصد به ذلك الزواج الذي أنهاه الطلاق، ولا الزواج الذي به تحديات كثيرة قد يمكن إصلاح بعضها، أقصد الزواج الفاشل الذي لا نستطيع إصلاحه، ولانريد ذلك، الذي يمكن تشبيهه بالشخص الميت إكلينيكياً، وليس ثمة طريق إلى الفكاك من قبضته إلا الموت.

ما الذي يجعل الزواج فاشلاً بكل المقاييس؟ إنها تلك الأسباب التي لا يمكن تفاديها ولا نسيانها، الأمور العظيمة التي لا يتحدث عنها أحد ولا يعرفها إلا الشريك، الأسباب التي تجعلك من الصدمة بمكان بحيث تفقد معها الرغبة في الإصلاح، ومتى ما نفضت يدك من المشكلة حكمت عليها بالتأبيد في صدرك.

قد تستطيع الزوجة الجبارة غض الطرف عن علاقات زوجها النسائية، بل وقد تتمكن من إصلاح الأمر، ولكن كيف لزوجة أن تتقبل وجود انحراف أخلاقي متأصل في حياة زوجها السرية؟ هذا بنظري سبب وجيه للحكم على الزواج بالفشل لاسيما إن كانت الزوجة قادمة من بيئة نظيفة وعلى الفطرة السليمة، وقد يسامح الرجل زوجته على كثير من الأمور ولكنها قد تقدم على فعل يطعنه طعناً لا يداويه الصبر ولا تمحوه الأيام، أترك المجال هنا مفتوحاً لخيال القارئ ليتصور ذلك الخطأ الذي لا يغتفر.

ما أكثر الأسرار التي ظلت حبيسة جدران لا آذان لها، هي تلك النيران الباردة التي تأتي على الأخضر واليابس بهدوء، العار الذي نقنع أنفسنا أنه ليس بعار طالما لم يعلم به أحد، ذلك الشيء الذي لا تراه إلا في المرآة.
الزواج الفاشل لا ينتهي بالطلاق وهذا بيت القصيد، فاشل لدرجة أن حتى الطلاق فشل في إنهائه، قد يلوم البعض من ابتلي بهذا الزواج في عدم إقدامه على الطلاق، ولكن الأمر مهما سهلته المحاكم فهو في بعض الحالات ليس بهذه البساطة أبداً.

أكبر سبب مانع للطلاق والذي لا يخفى على أحد هو الحرص على الأبناء لاسيما إن كان الشريكان قد استطاعا أن يوفرا لأبنائهما بيئة منعزلة عن عالم العار السحيق الذي دفناه في دواخلهما وأحكما القفل على تلك المنطقة المظلمة.

من موانع طلاق الزواج الفاشل كذلك الخوف من غضب الوالدين، الأمر الذي لن يتفهمه البعض، ولكن أن تخسر سعادتك ( في الدنيا ) بسبب زواج تعيس ثم تخسر (آخرتك ) بغضب أحد الوالدين عليك إن أنت طلقت أو تطلقت؛ فذلك هو الخسران المبين، وحتى إن كان الشرع في صفك فإن خوفك من غضب الوالدين (الذي أصّلته الموروثات الطيبة) سيلاحقك ولن ترتاح.

كما أن من الأسباب البارزة في مجتمعنا الحرص على إبقاء مستوى اجتماعي معين يحتم عليك أداءً مسرحياً مبهِراً بادعاء أن كل شيء على مايرام بل وعلى أفضل حال ، ولذلك نرى الكثير من الأزواج الفاشلين يقومون بإجراءات متطرفة كالسفر للسياحة سوية ،وإن كان الأبناء سبباً ظاهراً فإن المظهر الاجتماعي سبب باطني أعمق، فتراهم يقيمون في غرف منفصلة وربما أدوار منفصلة في الفندق ذاته!

إن الأسباب التي تمنع الطلاق كثيرة ولا يستهان بها، ثم ما الفائدة منه إن لم تكن الزوجة قادرة على البدء من جديد؟ ما قيمة الحرية إن كانت صوريّة تخفي وراءها قيوداً قَبَليّة ثقيلة؟ كيف تنطلق للحياة وهي مكبلة بألف سبب وسبب مما يجعل خسائرها بعد الطلاق أكبر من خسائرها قبله.

إن سقط الشريك من حساباتك فلا تسقط أنت من حسابات نفسك، مضى زمن الندم فلا تعنّف نفسك أكثر على سوء اختيارك، ومضى زمن الغضب فلا تفرغه في نفسك أو غيرك، ومضى زمن الخوف فأقدم، ومضى زمن الحزن فابتسم، فمازال في الحياة مساحات واسعة لم تطأها قدماك، (أنت) أمور أخرى كثيرة وما كونك زوج/زوجة إلا أحدها فحسب.

جريدة الراية - الإثنين26/12/2011 م

ألستُ أجمل من أبيكم؟

كثيراً ماتساءلت وأنا أنظر لجدتي رحمها الله كيف أنها مهما بلغت من المرض أو الإرهاق لم تكن لتستغني عن الكحل والحناء والمصاغ الذهبية والعطور، لايلزمها أن تخرج من بيتها أو أن يزورها أحد لتفعل ذلك كله، كان يحدث بتلقائية شديدة دون تكلف، كحال أكثر جداتنا في قطر لايفارق الكحل أعينهن الغالية المتعبة من سنوات الكد والعناء، وتساءلت عن هذه التربية الرائعة التي زرعت فيهن حب التزين زرعاً، فكن بحق ممن يُنَشّأ في الحلية.

وكذلك جدي رحمه الله حيث اعتدت منظر افتراشه الأرض وقد تَحَلّقنا حوله نتابع حركاته السحرية بإعجاب وهو يخلط مكونات الصبغة ليخفي بها الشيب الذي غزا كل شعر رأسه ووجهه، ثم يذهب للحمام ليغتسل ويسألنا مازحاً: "كيف أبدو؟ أرأيتم قط رجلاً بهذا الجمال والأناقة؟ ألست أجمل من أبيكم؟"، لطالما تساءلت بيني وبين نفسي أكان حقاً يرى ذلك في نفسه وهو الذي تجاوز الثمانين وعاصر شقاء الغوص في أهوال البحر، أم أنها أمور يفعلها كي لايستسلم لأحكام تقدم العمر ويقوَى على الاستمرار ومواجهة مصاعب الحياة وتناسي همومها التي كان أبرزها اختطاف الموت لابنه الأكبر ولكثير من أصدقائه وأحبابه.

ثم تساءلت وأنا أنظر إلى بعض نسائنا اليوم حيث لايتزين إلا عند الخروج من المنزل، فتمر على إحداهن الأيام تلو الأيام وهي كئيبة مستسلمة لضيق الوقت أو لأبناء تصعب السيطرة عليهم أنسوها الاهتمام بشكلها، رغم أن ظروف أمهاتنا وجداتنا كانت أصعب بكثير من وضع نساء اليوم، وتساءلت كذلك عن حال بعض رجالنا ممن أهمل الاهتمام بالهندام مالم يكن لمناسبة ما أو مكان ما.

رغم أننا نعيش في عالم مادي تحكمه المظاهر، عالم لامكان فيه للبسطاء شكلاً، إلا أن اهتمامنا بالهندام ليس شمولياً في كل نواحي الحياة؛ بل هو خارجي متكلف، لاينبع من حبنا لذواتنا وإنما إرضاء للغير، وبالتالي فإننا لانتمتع بتلك الثقة بالنفس التي كان يتمتع بها أجدادنا رغم بساطتهم، إذ تدور كثير من أحاديثهم حول مدى وسامتهم وهم في سن الشباب ، ذلك أنهم أدركوا جمالهم الداخلي ثم أضافوا عليه لمسات خارجية بسيطة أرضوا بها أنفسهم أولاً، فانعكس ذلك على تعاملهم مع غيرهم.

الكثير منا اليوم يعيش حياة مزدوجة إذ يختلف شكله خارج البيت اختلافاً جذرياً عن شكله داخله لاسيما بالنسبة للنساء مما ينال من الثقة بالنفس التي تنتشي مؤقتاً بالاطراءات الخارجية ثم بمجرد العودة للمنزل يختلف الشكل كلياً فيبرز هنا السؤال المحوري"من أنا؟" أأنا الشخص رائع الجمال بشهادة الأغراب في الخارج، أم أنا هذا الذي لايعجبني شكله ولكنني أراه في كل مرايا منزلي .. وهنا يتضاعف الشعور بعدم الاستحقاقية لتلك الإطراءات فتضعف الثقة أكثر مما يدفع بالشخص لاتخاذ إجراءات أكثر تطرفاً كاللجوء للتدخل الجراحي وغيره.

ومن المفارقات العجيبة التي تتجلى فيها هذه الازدواجية المجتمعية أن الحرص الشديد على التزين (للآخرين) بمساحيق التجميل وغيرها قد ألقى بظلاله حتى على قدسية مراسم العزاء، ولم يعد للموت اعتبار في وجه ضعف الثقة بالنفس مع الرغبة الملحة لإرضاء الناس ونيل إعجابهم ، لم أعد أستغرب من امرأة يتمنى زوجها أن يراها متزينة له ولكنها لاتملك إلا أن تتزين لأداء واجب عزاء!

هذه دعوة للتزين للذات أولاً ولأحبابنا المقربين ثانياً، دعوة لتربية بناتنا على الاهتمام بالأمور الأنثوية دون أن يكون السبب مناسبة ما، فنتجنب بذلك الكثير من المصائب فيما بعد والتي أقلها ضعف الثقة وأشدّها مايسمى بالاسترجال، دعوة لتأمل مانرتديه داخل المنزل أمام أغلى الناس وأولاهم بحسن عشرتنا، دعوة لعدم إهمال ترتيب الهندام طوال الوقت وبدون مناسبة كما كان أجدادنا يفعلون حباً للحياة لاحباً للمظاهر، تعزيزاً للثقة بالنفس لا إخفاءً لعدم وجود تلك الثقة من الأساس.

جريدة الراية - الإثنين19/12/2011 م

الأحد، 11 ديسمبر 2011

وإن كان مُحِقاً

نحتاج أحياناً عندما يحتد الجدال أن نتوقف عن المحاولات المستميتة لإثبات أننا على حق حتى وإن كان الشرع في صفّنا، ونتحلى عِوَضاً عن ذلك بصفة "التطنيش"، وهي كلمة لم أجد لها من الناحية اللغوية أصلاً عربياً فصيحاً ولكن اللهجات العاميّة تستخدمها بمعنى الإعراض، فتجعل صفة عدم الاكتراث بحد ذاتها ردة فعل، وذلك بالتقليل من أهمية الأمور العابرة تجنباً لعواقبها التي منها هدم البيوت وإفساد العلاقات.

قال ربنا سبحانه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) سورة الأعراف آية 199، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان محقاً..) رواه أبو داوود وحسنه الألباني ، فعلام يفقد أحدنا أعصابه بالنقاشات العقيمة مع أصحاب النفس الطويل في الجدال؟ تضيع الأوقات وتتنافر النفوس ويخسر الإنسان مالم يكن ليخسره لو أنه التزم الصمت وترفّع عن الاستمرار في الانحدار بالنقاش إلى مستويات دنيا.

ما يسمى بالتطنيش لا يعني بالضرورة اللامبالاة بحد ذاتها، قد يعني أننا نحب أنفسنا لدرجة أننا حريصون على راحة بالنا فلا نمنح أحداً صلاحية استفزازنا، ونحرص على أوقاتنا فلا نضيعها مع من لا قيمة للوقت لديه، بل ونحافظ على صحتنا فنتفادى ارتفاع ضغط الدم وتهيج القولون العصبي وغيرهما.

إن من يتمتع بهذا الفن ليس سلبياً كما قد يصفه البعض ولكنه مسالم وحكيم، يختار بعناية المعارك التي تستحق الخوض فيها ،عند تحضيري لكتابة هذا المقال حاورت عدداً ممن يتمتع بذلك الفن واكتشفت أنهم أذكى بكثير مما يتصوره الآخرون، ذلك أنهم وصلوا لمرحلة من الاستقلالية جعلتهم واثقين من وجهات نظرهم لدرجة أنهم لا يشعرون بالحاجة الملحة ليثبتوا للآخرين أنهم على حق، يكفيهم أنهم يعلمون ذلك ولا قيمة حقيقية لرأي الآخر هنا فهو حر في آرائه وهم كذلك، وعند بعضهم يكون الآخر شخصاً يحبونه ولذلك اختاروا أن يصمتوا عند دفاعه عن الأمور التي يعارضونها، حيث تُسعدهم رؤيته وهو يعيش دور المنتصر ويستمتع به لسويعات، فالأمر لا يستحق التوقف عنده في كل مرة لا سيما إن كان في ذلك الشخص صفات أخرى رائعة ولا يريدون خسارته بسبب أمور عابرة أو آراء قد يرونها شاذة أو مزعجة.

القدرة على التغاضي أسهل مما يتصور البعض، تَعَلَّم أن تبلع الكلمة قبل أن تقولها وستفاجأ بأنها لم تصبك بعسر الهضم، هي مسألة تعوّد وقدرة مكتسبة على تمالك الأعصاب تتأتّى بالمِران، تحدّ نفسك وقرر أن تتفضل بمنحهم شرف أن يكونوا أصحاب الكلمة الأخيرة، فليعلقوا هذا الحدث العالمي وساماً على صدورهم وليتباهوا به أمام أنفسهم في المرآة فأنت قد تصدقت به عليهم، كن على توافق داخلي مع نفسك بدل أن تحاول الوصول للتوافق مع من حولك وستفاجأ بأنك حققت الأمرين (بالتطنيش).

الغريب أن البعض يحتد بينهم النقاش على أمور تافهة، فتراهم يختلفون على لون سيارة مثلاً، ليس لأن الموضوع هام، ولكن لأن الكرامة دخلت في المعادلة، فلا يرض أحدهم أن يقال عنه إنه لا يرى جيداً أو أنه أصيب - مجازاً - بالعمى ،رغم أن الأعمى في هذه الحالة هو من عميت بصيرته فلم يَهدِه تفكيره إلى الترفع عن هذه النقاشات التي لا ينبغي أن تكون معياراً لتحديد قيمته أمام الآخرين.

فلتكن السيارة الكحلية سوداء، وليكن حكم المباراة مرتشياً، بل ولتكن الخرطوم عاصمة للصين! فلن يرسم مجلس العلماء الذي نوقشت فيه هذه الأمور خريطة العالم ولن يحدد النقاش كيفية سير الحياة، لست غاليليو الذي شَعَر أن على عاتقه إيصال حقيقة دوران الأرض للبشرية، وليس معارضوك رجال الكنيسة الذين حاربوه، ولا رسالتك التي تريد إيصالها هي بأهمية رسالته حيث إن جملة "ومع ذلك فهي تدور" كلفته أن يسجن حتى الموت ولم تعتذر له الكنيسة إلا بعد موته بسنوات طوال، فإن كان ما ستقوله بأهمية نظريات غاليليو ( في ذلك الوقت ) وسيُقَدّم للبشرية خدمة تجعل ماستدفعه من صحتك وراحة بالك ثمناً يستحق المحاولة فسنّ حبالك الصوتيه وأقدم، (وإلا فطنش).

صحيفة الراية القطرية- الإثنين12/12/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=609510&version=1&template_id=168&parent_id=167

الأحد، 4 ديسمبر 2011

أعطني سبباً !

أعرف امرأة تزوجت في سن صغيرة من رجل حسن السمعة طيب المعشر، أحبته وأحسنت له كما أحسن لها، عاشا بسعادة واستقرار عدة أشهر بلا خلافات من أي نوع، أوصلها بسيارته يومًا إلى منزل أهلها لتزورهم كالعادة على أن يأتي لاحقًا فيعيدها إلى عش الزوجية الهانئ ، لكنه لم يعد، ولم يتصل، لماذا لم يعد؟ هل تعرض لخطر ما؟ سيناريوهات مرعبة كثيرة تدور في البال في هذه اللحظات، ربما تعرض لحادث سيارة ، بل ربما لم يعد حيًا، أي أسباب غير تلك قد تمنعه من المجيء أو الاتصال؟ بعد يومين وصلتها ورقة الطلاق، ورحل.

تذكرني قصتها المبتورة بقصيدة الشاعرالكبيرعبدالرحمن بن مساعد (رحل) التي يقول في آخرها:

أقسى مافي اللي بيجي.. كل الحكي والأسئلة:"
متى رحل؟ وليه رحل؟
ولّا تعابير الأسى على الوجوه الصامتهْ..
ولّا العيون الشامتهْ..
ولّا العذول اللي يقول: اللي حصل ماهو غريب..
واللي يقول: ماكان يستاهل يكون.. أغلى حبيب!
ياسيدي.. أقسى مافي اللي بيجي إني أقول: هذا كل اللي حصل.. رحل! "


إن أكثر المواقف جرحًا للكرامة هي تلك التي لا يمنحوننا فيها شرف تفسير النهاية، فتظل القصة معلقة كأنها لم تنتهِ رغم أنها انتهت ربما حتى قبل أن تبدأ، هي تلك الأشياء المؤلمة التي تقضّ المضجع بكلمة "ليش؟"، سؤال وجيه بخلوا علينا بإجابته واكتفوا بأن يعرفوها هم، ثم مضوا في حياتهم غير آبهين بالخراب الذي خلّفوه.

أيًا كان السبب الذي جعلهم يسوِّغوا لأنفسهم تعليق الأمر فهو ظلم صريح، إن وجود السبب (مهما بلغت به التفاهة) لهو أرحم من غياب السبب بالكلية، السبب الظالم مهما كان موجعًا يؤدي دور إنهاء القصة، يسدل الستار على ذلك الفصل من حياة الإنسان، إن تفسير الأمر سيمنحنا صلاحية البكاء على أمر نعرف ماهيته، كي يبدأ الجرح بالنزف بشكل طبيعي ليتحقق له الالتئام بعد ذلك بشكل طبيعي أيضًا، أما غياب السبب فيفتح آفاق التأويل على مصراعيها، يفقد الشخص ثقته بنفسه مما ينعكس على صحته العاطفية فلا يستطيع إكمال مشوار الحياة باستقرار نفسي، كل المشاكل التي سيتعرض لها فيما بعد ستؤول في النهاية لذلك السبب الذي حرم من معرفته، وتظل أموره معلقة بينما ينعم الشخص الذي علقها بحياة هانئة أبعد ما تكون عن الحيرة التي يعيشها الضحية.

قد تكون الضحية طفلة تزوج أبوها امرأة أخرى وانشغل عنها فلم تعد تراه، قد يكون رجلاً هجرته أمه وليدًا وأهملت حتى السؤال عنه، ، قد يكون موظفًا جهل سبب التغير المفاجئ في معاملة مديره له، وكم من الأصدقاء المقربين من انقطعت علاقاتهم بذات السيناريو البغيض: طرف ينسحب بلا تبرير ليدع الطرف الآخر فريسة الغضب والتساؤل المرير، صعب جدًا أن يتمكن الإنسان من مسامحة شخص تركه دون سبب، ربما يسامح من تركه مفتريًا عليه، ولكن على ماذا سيسامح من لم يعطِه سببًا يسامحه عليه؟

إن بعض الأسباب بها من العار ما يمنع الشخص من كشفها، أو ربما بها من التجريح ما يمنع الشخص من إبدائها إشفاقًا على الآخر، فمن رحل (أو تغيّر) ليس شريرًا بالضرورة، ولكنه لايتمتع بالذكاء العاطفي، ربما طلق الرجل زوجته مثلاً لإصابته بمرض يرفض التصريح به و يخشى أن يعديها، ربما ترك الصديق صديقه بأمر من أبيه الذي لن يرضى عنه إلا بتركه، وغيرها من الأسباب التي يمكن تفهّمها ولكن الشخص يأبى التصريح بها، وربما من حقه الاحتفاظ بأمور لنفسه، ولكن أن يفتح الباب للتأويلات المزعجة فهذا ما لا يحق له، يجب عليه أن يجد طريقة توفر على صاحبه الألم مهما كانت، إن الهروب من التبرير يعد في نظري جريمة في حق المبرر له، وينبغي على الشخص أن يتصف بالشجاعة الكافية لتحمل مسؤولية قراره وتبرير موقفه ولايكتفي بالاختفاء كأن شيئًا لم يكن.

أعطِهم سببًا ثم امضِ، أي سبب، أرى أن (وجود سبب وهمي ) أفضل من (غياب السبب الحقيقي) ، فالنهاية الوهمية ليست بأقل قيمة من النهاية الصادقة ما لم يكتشف زيفها، فإن كان السبب من السوء بمكان فوجود سبب زائف سيخفف من وطأة الأمر ويؤدي مهمة إنهاء الحكاية مهما كان الأداء رديئًا.

إليكم أيها الرائعون الذين لم يجدوا في أنفسهم ما ينفّر؛ فحاولوا مرارًا تبرير ما امتنع عن تبريره من تركهم (أو تغيّر) فجأة، وحاولوا عنوة تجريد الطرف الآخر من تحمّل مسؤولية قراراته، وحاولوا بكل ما أوتوا من منطق تصديق أنه واقع تحت تأثير الحسد أو الشعوذة.. كان هذا المقال.

جريدة الراية القطرية - الإثنين5/12/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=608158&version=1&template_id=168&parent_id=167