الاثنين، 30 أبريل 2012

فَصَبْرٌ جَمِيلٌ

هل هناك ما يعكر صفو حياتك ؟ بك ضيقٌ من وضع عائلي معيّن؟ تُعاني من مشكلة صحية؟ ضقت من حالتك المادية التي تقف في وجه أحلامك ؟ فشلت في الزواج ممن تريد؟ غير مرتاح في وظيفتك؟ لن تخلوَ حياتك من ابتلاءٍ ما، ولعلّ في هذا المقال سلوانًا لك.

لعلّك قرأت عن المرأة التي بشّرها الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة حيث أتته طالبة الدعاء لها بالشفاء من الصرع، فخيّرها صلى الله عليه وسلم بين الشفاء وبين أن تصبر فتضمن الجنة، فاتخذت القرار الحكيم بالصبر على الابتلاء في هذه الدنيا الزائلة بدل المخاطرة بالخلود في نعيم الآخرة، ثم إنها اتخذت القرار الذكي بطلبها ألا تتكشف، وفي هذا التفاوض المؤدب مع النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنّ صبرها على الابتلاء لا يلغي حقها في الاجتهاد ورفض الاستسلام لتبعات الابتلاء التي يُمكن السيطرة عليها، الصبر لم يقف في وجه التفكير الإبداعي الذي جعلها تتوصل إلى الحل الوسط، لم تستسلم للواقع بالكلية دافنة رغبتها في ستر جسدها رغم ما بها من صرع، فكان لها ذلك.

أجزم أن هذه القصة تمسّ كل من يقرأ هذه الأسطر؛ إذ لا سعادة كاملة في هذه الدنيا، فالكل مبتلى بدرجات متفاوتة، لعلّ لنا نصيبًا من الجنة التي بشّرت بها هذه المرأة إن نحن صبرنا على ما نحن فيه، أما آن أن نغيرَ نظرتنا السوداوية للابتلاءات ونراها تذكرة دخول للجنة شرط الصبر عليها؟

ربما حرمك الله من أمر ما ليدخلك الجنة التي لم تكن لتستحقها لولا أن رفع منزلتك بصبرك على ما ابتلاك به، إذ ربما أصبت بالمرض لأنك لو كنت ذا صحة لاقترفت ذنوبًا نأى بك الرحيم عنها، ربما ابتلاك بشريك حياة فاسد ليرى صبرك فيدخلك الجنة التي لم تكن لتكون من أهلها لولا وجود ذلك الشخص في حياتك، ربما حالكِ أفضل بلا زوج فكم من امرأة كان زواجها جحيمًا أفقدها عقلها فانتهت إلى المصحات أو السجون.

أنا لا أدعو إلى ترك إصلاح أوضاعنا باسم الصبر، ولكن بعض الأمور ابتلاءات كتبها الله علينا من رحمته بنا ولا يداويها إلا الصبر الجميل الذي لا يتعارض مع الاجتهاد في تطوير الذات والأخذ بأسباب الفرج إن أمكن ذلك، هي حكمة الله نؤمن بوجودها قطعًا رغم جهلنا بها، إن عجزت نفسك عن استيعاب "وجود" تلك الحكمة لا "فحواها" فليس ذلك لضعف إيمان فحسب ولكنه قصور في فهم الدنيا كما هي عليه حقًا، إن هناك من غير المسلمين من فهم بالفطرة سبب وجود التحديات في الحياة وغيّر نظرته لها مما سهّل عليه التعايش معها بل والإبداع الدنيوي من ورائها، أمّا نحن المسلمين فلدينا من ديننا بشارات للصابرين في الدنيا والآخره وبها ما يجبر كل كسر ويريح كل قلب.

يا من ابتلي بالمرض العضال، لعلّ ما تتمناه من صحة لم يكتبها الله لك هي أمر مؤقت زائل لا يضمن لك ما يضمنه الصبر على المرض من دخول للجنة بلا حساب وبجسد مختلف سليم يقوى على التنعّم في جنة جارك فيها محمد صلى الله عليه وسلم، يا من تعرّضتِ للإجهاض وتتحسرين على الطفل الذي لم يكتب له عمر معكِ وعلى الأحلام التي لم تتحقق باحتضان جسده وسماع صوته؛ داوي الألمَ بالصبر الجميل، فلعلّه خير ولا تدرين ما كان سيؤول إليه حاله إن كبر، أيموت قبل أن ترينه أم يموت في عينيك ألف مرة وهو حي؟ ثم إن اللقاء معه حتمي في الآخرة ليكون شفيعًا لكِ ويتحقق لكِ الوعد في أخذه بيدكِ للدخول إلى ما لا عين رأته ولا أذن سمعت به ولا خطر على قلب بشر.

الحمد لله، إنّ قنوطنا من أمور في السابق لا يعني أننا لا نستطيع أن نُدير دفّة الأمور في اتجاه الصبر الآن، هي دعوة لتغيير نظرتنا للابتلاءات التي مُنحنا وجودها رحمة من الله بنا.

جريدة الراية - الإثنين30/4/2012

الاثنين، 23 أبريل 2012

التبرير لتخدير الضمير

بعد أن اعترفت بقتل زوجها بوحشية سألها الصحفي من وراء القضبان قبل أن يتم الحكم النهائي في قضيتها ما إذا كانت نادمة، فأجابت بكل ثقة: "لو عاد بي الزمن إلى الوراء لقتلته مجدداً، ولن أتردد في قتله مراراً إن كان ذلك ممكناً!"، ثم بدأت في سرد مبرراتها "لقد أذاقني المر، أشبعني ضرباً، لم يصرف علي، إنه لايستحق أن يعيش، وأنا فعلت ماكان يجب فعله منذ زمن".


ومثلها من اختلس من أموال الدولة سواء بسرقة الملايين أو بالاستيلاء على ممتلكات جهة عمله البسيطة أو باستغلال صلاحياته في الاستفادة الشخصية، كلهم كان لديهم مبررات خدّرت ضمائرهم وقت ارتكاب ذلك الفعل، ربما قال أحدهم إن الأجانب يتنعمون بثروات البلد وإنه أولى من غيره، وربما قال آخر إن جهة عمله تستحق أن تُنهب بسبب غياب الرقيب، وآخر قد يتذرّع بممارسة الآخرين للأمر وأن امتناعه لن يغير من الواقع شيئاً، وغيرهم من تحجج بعلم رئيسه بكل هذه التجاوزات ولا يحرك ساكناً، وربما قال آخر إن المدير نفسه يرتكب ذات التصرّف.. إلى آخر اسطوانة المبررات المشروخة.

أما أصحاب الوزن الزائد فهم كذلك يستخدمون أسلوب التبرير ليتنصلّوا من مسؤوليتهم في التحكم بحياتهم ،تبريراتهم أكثر إبداعاً من غيرهم جمعوا بها علوم الطب والجينات وعلم النفس ومختلف علوم الجغرافيا والأحياء، فبعضهم يلوم الوراثة، وآخر يلوم بيئته الأسرية أو الضغوط النفسية، وهناك من يلوم وضع جسمه الكيميائي حيث لايحرق السعرات الحرارية بسهولة، والبعض يتحجج بظروفه الصحية كآلام الركبة مثلاً،وهناك من يلوم الدولة التي لم توفّر متنزهات وشواطئ جاذبة، وربما تذرّع آخرون بحرارة الجو التي لا تشجّع على ممارسة الرياضة، وسلسلة المبررات لا تنتهي.

وكذلك من تربطها بزميل عملها علاقة تتجاوز مجال العمل، هي أيضاً لديها مبررات داخلية وإن رفضت التصريح بها، ربما لامت زوجها على فظاظته وجفافه في التعامل معها في الوقت الذي تجد فيه من الشخص الآخر لطفاً واحتراماً وتعاطفاً، فهو يهتم حقاً إن تأخرت أو لم تأكل شيئاً طوال فترة العمل، وربما عرض عليها أن يقوم بعملها المتراكم كي تخرج مبكراً لتستعد لحضور حفلة ما، هو الأذن التي تنصت لها باهتمام في الوقت الذي لا يريد زوجها سماع كلمة واحدة منها، كل ماسبق مبررات تلعب دور طبيب التخدير لكل آلام الضمير وتمنح الإنسان إحساساً كاذباً بالرضا عن الذات يخلو من أي إحساس بالذنب.


تبرير الأخطاء أمر خطير يسوَغ لنا ارتكاب أعتى أنواع الشرور والحماقات، هي لعبتنا على الذات كي نقتنع أن الخطأ ليس بخطأ وإنما هو ضرورة يجب فعلها كي يستقيم ميزان العدالة، المبرر هو ماينصّلنا من مسؤوليتنا في ما اقترفته أيدينا ونحن بكامل الوعي.

إنها ثقافة التبرير التي أعاقتنا عن إصلاح أخطائنا، الثقافة الهزيلة التي مارسناها ظلماً لأنفسنا بدل أن نستخدمها لتبرير أخطاء غيرنا، فحاسبناهم وتنصّلنا من محاسبة أنفسنا، أرى أن نستخدم التبرير لنسامح به غيرنا، ونمنع أنفسنا منه كي نتمكن من إصلاح حياتنا.



فيا من خنت شريكة العمر بم ستبرر ارتكاب كبيرة الزنا أمام رب العالمين في يوم العرض عليه؟ أبنشغالها مع الأبناء؟ أم بقلة تزيّنها؟ ويا من أدمنت معاكسة الفتيات أهن الملامات لتبرجهن أم أنت من فشل في التحكم بنوازع نفسه؟ ويا من خرجت متبرجة هل البحث عن زوج سبب حقيقي يبرر التهاون في الحجاب ونشر الفتنة؟ نحن لن نستطيع تغيير العالم مالم نتمكن من تغيير أنفسنا أولاً، كلنا مسؤولون وليس بيننا معذور، لننشغل قليلاً بإصلاح أنفسنا بدل اللوم الأهوج لكل ما حولنا.


إن إيجاد المبررات أحد أسهل مهارات الحياة، يبدأ مع الإنسان منذ طفولته فيبرر سرقة ألعاب غيره ( لأنها أجمل ) ، ويبرر غشه الامتحان ( لأنه صعب )، ومع تقدمّنا في العمر تتطور معنا مهارة التبرير وتصبح أكثر حبكاً فتصبح أكثر إقناعاً وتتطور إلى سرقة زوج، والاستيلاء على ميراث، و قد تصل إلى سرقة وطن من سكانه الأصليين، بل إن الجبابرة قد يدّعون الألوهية و يبررون لأنفسهم إبادة شعوب بأكملها.


على الجانب الآخر فإننا بقليل من المنطق السوي ندرك بالفطرة أننا كنا نستطيع تفادي تلك الأفعال لو واجهنا أنفسنا مواجهة صادقة وتسلّمنا زمام أمور حياتنا دون إلقاء المسؤولية على أي شخص أو وضع ، فكما أننا استطعنا أن نبرر فنحن كذلك نستطيع أن لا نبرر، نحن نستطيع أن نستطيع، إن أردنا ذلك حقاً.

جريدة الراية- الإثنين23/4/2012
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=638551&version=1&template_id=168&parent_id=167

الاثنين، 16 أبريل 2012

ماذا تنتظر؟



أمطرت سماء البارحة في عاصمة الضباب وأنا بصحبة بعض الأهل والصديقات ، آوينا مسرعات إلى أقرب مكان يعصمنا من الماء وكان بهو أحد الفنادق الفخمة، تحلقنا جميعاً حول طاولة انتظاراً لتوقف الأمطار وانضمت إلينا أخريات من جنسيات خليجية وعربية، استمتعنا سوياً بانتظار توقف الأمطار، وبدأت أحاديث السفر التي تسفر عن دواخل النفوس.


الحديث عن انتظار توقف المطر جر إلى الحديث عن الانتظار، أيقنت عندها أن الانتظار يشغل مساحات واسعة من حياة الجميع، قالت إحداهن إنها تنتظر تخرّج أبنائها من الجامعة بوجل وتخشى أن لايتحقق الحلم فتنهار خطط المستقبل الباهر الذي رسمته لهم، قالت بحسم إن شهاداتهم الجامعية ستسدل الستار على الانتظار.. ذلك الفصل المتعب من حياتها، وتساءلت في داخلي أحقاً هذه آخر الأحلام أم سيبدأ بعد ذلك مسلسل انتظار زواجهم وأبنائهم، وستظل تنتظر أموراً يتلو بعضها بعضاً وتسمى بالمجمل: حياة.


وقالت أخرى: لقد عاشت أمي تنتظر عودة أخي المسافر أعواماً ثلاثين حتى توفاها الموت دون أن تراه، فقد سافر إلى إحدى الدول الغربية للدراسة ولم نره بعد ذلك إلا بعد وفاتها على موقع الفيسبوك، قبل موتها بقليل أوصت أن نخبره إن ظهر في حياتنا مجدداً أنها راضية عنه، فهي لم تفن عمرها غضباً عليه وإنما كانت تنتظر فحسب، تنتظره بأمل لا بقهر، انتظرته حتى محى طول الانتظار كل المشاعر السلبية وظل الانتظار هو الحدث الوحيد المسيطر على حياتها حتى ماتت.

وأخرى ترقرقت عيناها بالدموع وهي تقول بعبرات مخنوقة وابتسامة تقطر شجناً "أنا لاأنتظر إلا أمراً واحداً لا أريد غيره، أنتظر لقاء أبي وأمي، ولن أرتاح حقاً إلا إن ذهبت حيث ذهبوا" وما أكثر من لا يجرؤ على اعتراف انتظاره للموت شوقاً لمن رحل.


وأخريات قلن أنهن ينتظرن الهداية، ولا أعلم إن كانت الهداية أمراً يُرجى وقوعه من السماء، كثير من الناس يتصرف وكأن بيده مفاتيح العمر فينتظر مثلاً أن يكبر سناً كي يؤدي فريضة الحج بعد أن يصل للعمر الذي لايقوى فيه على الكبائر عجزاً لا توبةً، ومنهن من تنتظر أن يمضي العمر ويفنى الجمال كي تقرر أخيراً أن ترتدي الحجاب وكأن الهدف منه تغطية الشيب وتجاعيد الرقبة.


من الناس كذلك وما أكثرهم من ينتظر الحب ليعوض به العمر الذي مضى، وما أكثر الهاربات من القحط العاطفي الذي لايكاد يروي ظمأه إلا دبلجة رديئة لمسلسلات عقيمة قدمت أمراً يشبه البديل.

وكثيرون ينتظرون الحظ كي ينزل عليهم من السماء لينتشلهم من براثن الإحباط، وهناك من ينتظر أن يجد نفسه التي أضاعها في زحمة الحياة ولم يعد يتعرف على ذلك الذي يراه يومياً.. في المرآة.


وتساءلنا.. كم الآن في مكان آخر من ساكني المستشفيات من ينتظر الموت على فراش المرض يجتر ماتبقى له من العمر اجتراراً وتمر عليه الأيام كئيبة يجر بعضها بعضها، وكم من المظلومين في هذه الحياة من أفنوا أعمارهم قهراً في انتظار الانتقام ولن ترتاح خواطرهم إلا بعد أن تنصفهم عدالة السماء.


وهناك من لايقوى على الانتظار، بل ويصل لمرحلة لايعد معها يريد ذلك الشيء الذي كان ينتظره، وربما أغلق الباب في وجه أحلامه المتأخرة، وربما تحولت مشاعر الشوق إلى مشاعر أخرى غاضبة و مدمرة.. آلآن؟



وهناك من انتظر كثيراً، ثم بعد أن حصل أخيراً على ما أفنى عمره في انتظاره اكتشف متحسراً بعد فوات الأوان أن الأمر لم يكن يستحق كل تلك اللهفة..أبداً.

الانتظار ليس حدثاً وإنما هو انتظار لحدث مستقبلي غير مؤكد، ومن المؤسف أن يضيع العمر ونحن ننتظر الحدث عِوضاً على أن نعيشه، في الحياة أمور أخرى حصلت حقاً ومن الجميل أن نعيشها قليلاً بدل أن ننتظر غيرها كي يحصل ثم ننتظر مابعده.


صفت السماء وبدأ المارون في الشارع بإغلاق مظلاتهم، فانفضت جلستنا العفوية وذهبت كل واحدة منا في طريق إلى حيث تسكن، كلهن مضين بما تحمل أضلعهن من أحلام ينتظرن تحقيقها..

جريدة الراية-  الإثنين16/4/2012

الاثنين، 9 أبريل 2012

فجعلناهم أحاديث

كانت تشتكي كثيرًا منه، رأت في اهتمامه بها إزعاجًا وفي ثقته (التي منحتها حيزًا مريحًا من الحرية) قلة غيرة! كان هاتفها يرن أمامي فلا ترد رغم استعطافي لها بل تقول: "دعيه يتصل ولاتشغلي بالك.. إنه زوجي يسأل عني وكأني سأطير عنه.. انظري إلى رسائل الحب التي يرسلها.. يا لتفرغه!"، لطالما ضحِكَت بلامبالاة على ذوقه المتواضع في الهدايا، وكثيرًا ما كانت ترفض مبادراته للخروج معًا، لم تتزين له أبدًا رغم علمها أنه كان يتمنى ذلك، وكان هو رغم كل شيء متمسكًا بها، حادثتني بعد فترة انقطاع وإذا بها لاتزال تتذمر وتندب حظها، ولكن هذه المرة بسبب انشغاله الذي أصبحت تراه إهمالاً وقوانينه التي تراها قيودًا من التحكم والشك، أصبحت تشكو عدم اتصاله ليسأل عن حالها وتقصيره في إهدائها أي شيء وعدم مبادراته للخروج سويًا، ورغم أنها حاولت إصلاح نفسها إلا أنه لم يعد متمسكًا بها.

لقد تكبّرت على النعمة العظيمة التي كانت لديها، لم تحمد الله على ذلك الزوج المحب الذي حاول إسعادها بشتى الطرق، هاهو الآن يمنعها من زيارة الناس بعد أن كان يومًا ينتظرها بكل الحب عند بيوت صديقاتها وهي تتأخر بأنانية عمياء ولاتلق بالاً لكونه وحيدًا في سيارته بعد عناء يوم عمل طويل، لقد آثرت إلا أن تخسره وتقسّي قلبه عليها مع مرور الأيام، لم تنكر فضله فحسب بل لطالما تذمرت من مثاليته التي تتمناها الكثيرات، واليوم تتساءل باستغراب : أي عينٍ أصابته..أي سحرٍ أعماه..ما الذي غيّره؟ وددت لو أقول لها : أنتِ.

تذكرني أمثال هذه المواقف بقصة قوم سبأ المذكورة في القرآن، حيث كان في اليمن قرية أنعم الله عليها بخيرات عظيمة من مياه وزروع، بل إن الثمار كانت تتساقط على الناس دون مجهود يذكر، تمتعت تلك القرية بالأمان وسهولة التنقل والسفر منها، ولكن أهلها لم يحمدوا الله على نعمة الحياة المريحة وإنما تذمروا من هذا الخير العظيم فدعوا على أنفسهم بأن تصعب عليهم الأسفار (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) آية 19 سورة سبأ، فسلط الله عليهم السيل بكفرهم بالنعم، واستبدل ثمارهم الشهية بأخرى شائكة وجافة لاتكاد تسد الرمق، وأصبحوا اليوم أحاديث يتناقلها الرواة بعد أن كانوا أهل حضارة عظيمة يشار إليها بالبنان.

إن من سوء الأدب مع الرازق سبحانه ألانقدّر قيمة الخير الذي منحنا إياه، وأرى أن من صور الجحود بالنعم كذلك أن نتذمر من الأمور التافهة رغم أن الله رزقنا بما هو أهم ، لقد أصبح انتقاد التوافه مقبولاً بين الناس وسريع التداول والانتشار رغم أنه يشيع أجواء من السلبية والقنوط ويمنعنا من الاستمتاع بالحياة بل ويشغلنا عن إصلاح الأمور الهامة حقًا؛ بما في ذلك إصلاح أنفسنا.

على صعيد أوسع وأخطر ولا يخفى على أحد فإن من أوجه الكفر بالنعم استباحة المحرمات، إن البلد التي تستغل خيراتها لنشر المفاسد كفرت بأنعم الله، والشعوب التي تتذمر وتبذر بدل أن تشكر الله على ما تتمتع به من ثروات وأمن وأمان كفرت بأنعم الله كذلك، وقد نسب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:

إذا كنت في نعمة فارعها
               فإن الذنوب تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد
              فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت
             فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى
           لتبصر آثار من قد ظلم

جريدة الراية - الإثنين9/4/2012

الاثنين، 2 أبريل 2012

لاتواسيني بتصغير الألم

إن من صور مُراعاة مشاعر الآخرين ألا نستهين بأحزانهم لا سيما في بداية وقوع المصائب، البعض يستنكر عليهم حتى الدموع ويُعنّفهم عليها وهذه ذروة التهميش لمشاعرهم، ربما ذهب أحدهم لعزاء شخص فقال له: "لا تبكِ عليه! فهو يُعذّب ببكائك!! إنه يتعذب بسببك!" كان من الأولى له أن يبحث عن معنى هذا الأمر قبل أن يُحرّم عليه حتى الدموع، فقد بيّن النووي رحمه الله أن العلماء على اختلاف مذاهبهم أجمعوا أن ما يُعذَب به الميت هو البكاء بصوت ونياحة وليس بمجرد دمع العين، أما ما يُقصد بكلمة يُعذّب فقد ذهب الطبري وغيره أن المقصود به أن قلب الميت يرق لأهله ويحزن ويتألم بسماعهم يبكون (على النحو المذكور)، ويكون حينها في البرزخ وليس يوم القيامة، وأنا أرى أن في هذا المعنى سلوانًا لهم حيث يشعرون بقربه منهم وإحساسه بهم رغم الموت.



تقول الشاعرة العالية:
لا تُواسيني بتصغير الألم
                        دامه بعيني وبإحساسي كبير
قل لي إني أكثر إنسان انظلم
                        وإنك بتبقى بصفي للأخير
لا تعاتبني على دمع وندم
                       لا تطلعني بها للحظة صغير !



تتجلى مُراعاة مشاعر الآخرين في التعاطف الصادق معهم، أحيانًا لايحتاج الإنسان إلى منديل ليمسح دموعه ولكن إلى كتف يبكي عليه، أحيانًا لا يشتكي بحثًا عن حلول ولكن عن اهتمام، لا يريد منطقًا جافًا ولكن يريد أذنًا مصغية، لا تخبره أنه الآن بخير إن لم يكن كذلك، بل قل له إنه ليس بخير ولا بأس من ذلك فسيصبح بخير بعد حين، الإيجابية أحيانًا ليست في إنكار وضع قائم وإنما في التسليم بوجود وضع سيئ والاقتناع بأنه إلى زوال، إن الرأي المُتعاطف مع الآخر هو أكثر واقعية وبالتالي فهو أقرب للتصديق وأقدر على المواساة، إن لم نكن بخير فنحن لسنا بخير وما أجمل الاعتراف بحقيقة الأمور بدل إنكار مدى سوئها في مشهد تمثيلي رديء لا يقتنع به أحد لكن الجميع يدّعي تصديقه.



يشدني أسلوب تعامل د.فوزية الدريع مع متصليها في البرنامج التلفزيوني الذي تستقبل فيه مشاكلهم، لا يخلو حديثها من كلمات ودودة كـ "يا عيوني"، "ها أمي"، إنها لا تحتقر وضعهم الديني المقصّر ولاتعنّفهم على ما لايمكن إصلاحه من أخطائهم التي حصلت وانتهت، ورغم أنها أفنت عمرًا في علاج أبشع أنواع المشاكل والتي ترتبط بالتحرشات وآثارها النفسية الفادحة، إلا أنها ورغم كل ما مر عليها لا تزال تتأثر بصدق بل وتبكي مع المتصلين إذ تدمع عيناها وتطلب فاصلاً إعلانيًا.



"خلني أشكي واعبر عن ألم
                     لا تقول اضحك أنا توّي كسير" (الشاعرة العالية)
ومن صور تهميش مشاعر الآخرين إعطاؤهم حلولاً بسيطة وسريعة، عندما يخبرك أحدهم أنه مصاب بالأرق لا تقل له ببساطة: "استلقِ وأغمض عينيك وسيأتيك النوم!"، ألا تظن أنه يعلم ذلك بعد خبرة نوم عمره كله؟ ألم يوصلك تفكيرك إلى إمكانية وجود سبب أعمق من ذلك حرم عينيه النوم؟ قد لا تكون طبيبًا متمرسًا ولا تعرف الأسباب ولكنك بالتأكيد تعلم أن ما قلته لم يكن أفضل ما لديك ولم تقله على نحو يحمل أي ذرة تعاطف.



سلاح الكلمات يمتلك قدرة علاجية مُذهلة، أحيانًا تختصرعلى الآخرين بتعاطفك معهم مسافات طويلة من الوجع، الاعتراف بحقهم المشروع في الحزن بسبب المواقف التي يمرون بها يمنحهم قدرة عجيبة على التعافي وتخطي تلك المواقف بسلام بعد أن يكونوا قد منحوها حقها من التعبيرعما فعلته في أرواحهم.



المواساة فن، بعض الناس يعرف بالفطرة ماذا يقول للآخرين في مواقف الضعف الإنساني لينتشلهم مما هم فيه برفق، والبعض الآخر لا يتمتعون بهذه القدرة إما بسبب عدم وجود الموهبة الكلامية أو بسبب الإغراق في حُب الذات إلى الدرجة التي أعمتهم عن رؤية عذابات الآخرين، وفي الحالتين فهم يستطيعون تعلّم بعض مهارات المواساة أو تفادي بعض الأخطاء.

جريدة الراية - الإثنين2/4/2012