الاثنين، 26 ديسمبر 2011

الزواج الميت إكلينيكياً

للفئة التي يناقش وضعها هذا المقال وجود في مجتمعنا بنسبة لا يمكن للإحصائيات التوصل لها أو تقديرها، الزواج الفاشل: لا أقصد به ذلك الزواج الذي أنهاه الطلاق، ولا الزواج الذي به تحديات كثيرة قد يمكن إصلاح بعضها، أقصد الزواج الفاشل الذي لا نستطيع إصلاحه، ولانريد ذلك، الذي يمكن تشبيهه بالشخص الميت إكلينيكياً، وليس ثمة طريق إلى الفكاك من قبضته إلا الموت.

ما الذي يجعل الزواج فاشلاً بكل المقاييس؟ إنها تلك الأسباب التي لا يمكن تفاديها ولا نسيانها، الأمور العظيمة التي لا يتحدث عنها أحد ولا يعرفها إلا الشريك، الأسباب التي تجعلك من الصدمة بمكان بحيث تفقد معها الرغبة في الإصلاح، ومتى ما نفضت يدك من المشكلة حكمت عليها بالتأبيد في صدرك.

قد تستطيع الزوجة الجبارة غض الطرف عن علاقات زوجها النسائية، بل وقد تتمكن من إصلاح الأمر، ولكن كيف لزوجة أن تتقبل وجود انحراف أخلاقي متأصل في حياة زوجها السرية؟ هذا بنظري سبب وجيه للحكم على الزواج بالفشل لاسيما إن كانت الزوجة قادمة من بيئة نظيفة وعلى الفطرة السليمة، وقد يسامح الرجل زوجته على كثير من الأمور ولكنها قد تقدم على فعل يطعنه طعناً لا يداويه الصبر ولا تمحوه الأيام، أترك المجال هنا مفتوحاً لخيال القارئ ليتصور ذلك الخطأ الذي لا يغتفر.

ما أكثر الأسرار التي ظلت حبيسة جدران لا آذان لها، هي تلك النيران الباردة التي تأتي على الأخضر واليابس بهدوء، العار الذي نقنع أنفسنا أنه ليس بعار طالما لم يعلم به أحد، ذلك الشيء الذي لا تراه إلا في المرآة.
الزواج الفاشل لا ينتهي بالطلاق وهذا بيت القصيد، فاشل لدرجة أن حتى الطلاق فشل في إنهائه، قد يلوم البعض من ابتلي بهذا الزواج في عدم إقدامه على الطلاق، ولكن الأمر مهما سهلته المحاكم فهو في بعض الحالات ليس بهذه البساطة أبداً.

أكبر سبب مانع للطلاق والذي لا يخفى على أحد هو الحرص على الأبناء لاسيما إن كان الشريكان قد استطاعا أن يوفرا لأبنائهما بيئة منعزلة عن عالم العار السحيق الذي دفناه في دواخلهما وأحكما القفل على تلك المنطقة المظلمة.

من موانع طلاق الزواج الفاشل كذلك الخوف من غضب الوالدين، الأمر الذي لن يتفهمه البعض، ولكن أن تخسر سعادتك ( في الدنيا ) بسبب زواج تعيس ثم تخسر (آخرتك ) بغضب أحد الوالدين عليك إن أنت طلقت أو تطلقت؛ فذلك هو الخسران المبين، وحتى إن كان الشرع في صفك فإن خوفك من غضب الوالدين (الذي أصّلته الموروثات الطيبة) سيلاحقك ولن ترتاح.

كما أن من الأسباب البارزة في مجتمعنا الحرص على إبقاء مستوى اجتماعي معين يحتم عليك أداءً مسرحياً مبهِراً بادعاء أن كل شيء على مايرام بل وعلى أفضل حال ، ولذلك نرى الكثير من الأزواج الفاشلين يقومون بإجراءات متطرفة كالسفر للسياحة سوية ،وإن كان الأبناء سبباً ظاهراً فإن المظهر الاجتماعي سبب باطني أعمق، فتراهم يقيمون في غرف منفصلة وربما أدوار منفصلة في الفندق ذاته!

إن الأسباب التي تمنع الطلاق كثيرة ولا يستهان بها، ثم ما الفائدة منه إن لم تكن الزوجة قادرة على البدء من جديد؟ ما قيمة الحرية إن كانت صوريّة تخفي وراءها قيوداً قَبَليّة ثقيلة؟ كيف تنطلق للحياة وهي مكبلة بألف سبب وسبب مما يجعل خسائرها بعد الطلاق أكبر من خسائرها قبله.

إن سقط الشريك من حساباتك فلا تسقط أنت من حسابات نفسك، مضى زمن الندم فلا تعنّف نفسك أكثر على سوء اختيارك، ومضى زمن الغضب فلا تفرغه في نفسك أو غيرك، ومضى زمن الخوف فأقدم، ومضى زمن الحزن فابتسم، فمازال في الحياة مساحات واسعة لم تطأها قدماك، (أنت) أمور أخرى كثيرة وما كونك زوج/زوجة إلا أحدها فحسب.

جريدة الراية - الإثنين26/12/2011 م

ألستُ أجمل من أبيكم؟

كثيراً ماتساءلت وأنا أنظر لجدتي رحمها الله كيف أنها مهما بلغت من المرض أو الإرهاق لم تكن لتستغني عن الكحل والحناء والمصاغ الذهبية والعطور، لايلزمها أن تخرج من بيتها أو أن يزورها أحد لتفعل ذلك كله، كان يحدث بتلقائية شديدة دون تكلف، كحال أكثر جداتنا في قطر لايفارق الكحل أعينهن الغالية المتعبة من سنوات الكد والعناء، وتساءلت عن هذه التربية الرائعة التي زرعت فيهن حب التزين زرعاً، فكن بحق ممن يُنَشّأ في الحلية.

وكذلك جدي رحمه الله حيث اعتدت منظر افتراشه الأرض وقد تَحَلّقنا حوله نتابع حركاته السحرية بإعجاب وهو يخلط مكونات الصبغة ليخفي بها الشيب الذي غزا كل شعر رأسه ووجهه، ثم يذهب للحمام ليغتسل ويسألنا مازحاً: "كيف أبدو؟ أرأيتم قط رجلاً بهذا الجمال والأناقة؟ ألست أجمل من أبيكم؟"، لطالما تساءلت بيني وبين نفسي أكان حقاً يرى ذلك في نفسه وهو الذي تجاوز الثمانين وعاصر شقاء الغوص في أهوال البحر، أم أنها أمور يفعلها كي لايستسلم لأحكام تقدم العمر ويقوَى على الاستمرار ومواجهة مصاعب الحياة وتناسي همومها التي كان أبرزها اختطاف الموت لابنه الأكبر ولكثير من أصدقائه وأحبابه.

ثم تساءلت وأنا أنظر إلى بعض نسائنا اليوم حيث لايتزين إلا عند الخروج من المنزل، فتمر على إحداهن الأيام تلو الأيام وهي كئيبة مستسلمة لضيق الوقت أو لأبناء تصعب السيطرة عليهم أنسوها الاهتمام بشكلها، رغم أن ظروف أمهاتنا وجداتنا كانت أصعب بكثير من وضع نساء اليوم، وتساءلت كذلك عن حال بعض رجالنا ممن أهمل الاهتمام بالهندام مالم يكن لمناسبة ما أو مكان ما.

رغم أننا نعيش في عالم مادي تحكمه المظاهر، عالم لامكان فيه للبسطاء شكلاً، إلا أن اهتمامنا بالهندام ليس شمولياً في كل نواحي الحياة؛ بل هو خارجي متكلف، لاينبع من حبنا لذواتنا وإنما إرضاء للغير، وبالتالي فإننا لانتمتع بتلك الثقة بالنفس التي كان يتمتع بها أجدادنا رغم بساطتهم، إذ تدور كثير من أحاديثهم حول مدى وسامتهم وهم في سن الشباب ، ذلك أنهم أدركوا جمالهم الداخلي ثم أضافوا عليه لمسات خارجية بسيطة أرضوا بها أنفسهم أولاً، فانعكس ذلك على تعاملهم مع غيرهم.

الكثير منا اليوم يعيش حياة مزدوجة إذ يختلف شكله خارج البيت اختلافاً جذرياً عن شكله داخله لاسيما بالنسبة للنساء مما ينال من الثقة بالنفس التي تنتشي مؤقتاً بالاطراءات الخارجية ثم بمجرد العودة للمنزل يختلف الشكل كلياً فيبرز هنا السؤال المحوري"من أنا؟" أأنا الشخص رائع الجمال بشهادة الأغراب في الخارج، أم أنا هذا الذي لايعجبني شكله ولكنني أراه في كل مرايا منزلي .. وهنا يتضاعف الشعور بعدم الاستحقاقية لتلك الإطراءات فتضعف الثقة أكثر مما يدفع بالشخص لاتخاذ إجراءات أكثر تطرفاً كاللجوء للتدخل الجراحي وغيره.

ومن المفارقات العجيبة التي تتجلى فيها هذه الازدواجية المجتمعية أن الحرص الشديد على التزين (للآخرين) بمساحيق التجميل وغيرها قد ألقى بظلاله حتى على قدسية مراسم العزاء، ولم يعد للموت اعتبار في وجه ضعف الثقة بالنفس مع الرغبة الملحة لإرضاء الناس ونيل إعجابهم ، لم أعد أستغرب من امرأة يتمنى زوجها أن يراها متزينة له ولكنها لاتملك إلا أن تتزين لأداء واجب عزاء!

هذه دعوة للتزين للذات أولاً ولأحبابنا المقربين ثانياً، دعوة لتربية بناتنا على الاهتمام بالأمور الأنثوية دون أن يكون السبب مناسبة ما، فنتجنب بذلك الكثير من المصائب فيما بعد والتي أقلها ضعف الثقة وأشدّها مايسمى بالاسترجال، دعوة لتأمل مانرتديه داخل المنزل أمام أغلى الناس وأولاهم بحسن عشرتنا، دعوة لعدم إهمال ترتيب الهندام طوال الوقت وبدون مناسبة كما كان أجدادنا يفعلون حباً للحياة لاحباً للمظاهر، تعزيزاً للثقة بالنفس لا إخفاءً لعدم وجود تلك الثقة من الأساس.

جريدة الراية - الإثنين19/12/2011 م

الأحد، 11 ديسمبر 2011

وإن كان مُحِقاً

نحتاج أحياناً عندما يحتد الجدال أن نتوقف عن المحاولات المستميتة لإثبات أننا على حق حتى وإن كان الشرع في صفّنا، ونتحلى عِوَضاً عن ذلك بصفة "التطنيش"، وهي كلمة لم أجد لها من الناحية اللغوية أصلاً عربياً فصيحاً ولكن اللهجات العاميّة تستخدمها بمعنى الإعراض، فتجعل صفة عدم الاكتراث بحد ذاتها ردة فعل، وذلك بالتقليل من أهمية الأمور العابرة تجنباً لعواقبها التي منها هدم البيوت وإفساد العلاقات.

قال ربنا سبحانه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) سورة الأعراف آية 199، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان محقاً..) رواه أبو داوود وحسنه الألباني ، فعلام يفقد أحدنا أعصابه بالنقاشات العقيمة مع أصحاب النفس الطويل في الجدال؟ تضيع الأوقات وتتنافر النفوس ويخسر الإنسان مالم يكن ليخسره لو أنه التزم الصمت وترفّع عن الاستمرار في الانحدار بالنقاش إلى مستويات دنيا.

ما يسمى بالتطنيش لا يعني بالضرورة اللامبالاة بحد ذاتها، قد يعني أننا نحب أنفسنا لدرجة أننا حريصون على راحة بالنا فلا نمنح أحداً صلاحية استفزازنا، ونحرص على أوقاتنا فلا نضيعها مع من لا قيمة للوقت لديه، بل ونحافظ على صحتنا فنتفادى ارتفاع ضغط الدم وتهيج القولون العصبي وغيرهما.

إن من يتمتع بهذا الفن ليس سلبياً كما قد يصفه البعض ولكنه مسالم وحكيم، يختار بعناية المعارك التي تستحق الخوض فيها ،عند تحضيري لكتابة هذا المقال حاورت عدداً ممن يتمتع بذلك الفن واكتشفت أنهم أذكى بكثير مما يتصوره الآخرون، ذلك أنهم وصلوا لمرحلة من الاستقلالية جعلتهم واثقين من وجهات نظرهم لدرجة أنهم لا يشعرون بالحاجة الملحة ليثبتوا للآخرين أنهم على حق، يكفيهم أنهم يعلمون ذلك ولا قيمة حقيقية لرأي الآخر هنا فهو حر في آرائه وهم كذلك، وعند بعضهم يكون الآخر شخصاً يحبونه ولذلك اختاروا أن يصمتوا عند دفاعه عن الأمور التي يعارضونها، حيث تُسعدهم رؤيته وهو يعيش دور المنتصر ويستمتع به لسويعات، فالأمر لا يستحق التوقف عنده في كل مرة لا سيما إن كان في ذلك الشخص صفات أخرى رائعة ولا يريدون خسارته بسبب أمور عابرة أو آراء قد يرونها شاذة أو مزعجة.

القدرة على التغاضي أسهل مما يتصور البعض، تَعَلَّم أن تبلع الكلمة قبل أن تقولها وستفاجأ بأنها لم تصبك بعسر الهضم، هي مسألة تعوّد وقدرة مكتسبة على تمالك الأعصاب تتأتّى بالمِران، تحدّ نفسك وقرر أن تتفضل بمنحهم شرف أن يكونوا أصحاب الكلمة الأخيرة، فليعلقوا هذا الحدث العالمي وساماً على صدورهم وليتباهوا به أمام أنفسهم في المرآة فأنت قد تصدقت به عليهم، كن على توافق داخلي مع نفسك بدل أن تحاول الوصول للتوافق مع من حولك وستفاجأ بأنك حققت الأمرين (بالتطنيش).

الغريب أن البعض يحتد بينهم النقاش على أمور تافهة، فتراهم يختلفون على لون سيارة مثلاً، ليس لأن الموضوع هام، ولكن لأن الكرامة دخلت في المعادلة، فلا يرض أحدهم أن يقال عنه إنه لا يرى جيداً أو أنه أصيب - مجازاً - بالعمى ،رغم أن الأعمى في هذه الحالة هو من عميت بصيرته فلم يَهدِه تفكيره إلى الترفع عن هذه النقاشات التي لا ينبغي أن تكون معياراً لتحديد قيمته أمام الآخرين.

فلتكن السيارة الكحلية سوداء، وليكن حكم المباراة مرتشياً، بل ولتكن الخرطوم عاصمة للصين! فلن يرسم مجلس العلماء الذي نوقشت فيه هذه الأمور خريطة العالم ولن يحدد النقاش كيفية سير الحياة، لست غاليليو الذي شَعَر أن على عاتقه إيصال حقيقة دوران الأرض للبشرية، وليس معارضوك رجال الكنيسة الذين حاربوه، ولا رسالتك التي تريد إيصالها هي بأهمية رسالته حيث إن جملة "ومع ذلك فهي تدور" كلفته أن يسجن حتى الموت ولم تعتذر له الكنيسة إلا بعد موته بسنوات طوال، فإن كان ما ستقوله بأهمية نظريات غاليليو ( في ذلك الوقت ) وسيُقَدّم للبشرية خدمة تجعل ماستدفعه من صحتك وراحة بالك ثمناً يستحق المحاولة فسنّ حبالك الصوتيه وأقدم، (وإلا فطنش).

صحيفة الراية القطرية- الإثنين12/12/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=609510&version=1&template_id=168&parent_id=167

الأحد، 4 ديسمبر 2011

أعطني سبباً !

أعرف امرأة تزوجت في سن صغيرة من رجل حسن السمعة طيب المعشر، أحبته وأحسنت له كما أحسن لها، عاشا بسعادة واستقرار عدة أشهر بلا خلافات من أي نوع، أوصلها بسيارته يومًا إلى منزل أهلها لتزورهم كالعادة على أن يأتي لاحقًا فيعيدها إلى عش الزوجية الهانئ ، لكنه لم يعد، ولم يتصل، لماذا لم يعد؟ هل تعرض لخطر ما؟ سيناريوهات مرعبة كثيرة تدور في البال في هذه اللحظات، ربما تعرض لحادث سيارة ، بل ربما لم يعد حيًا، أي أسباب غير تلك قد تمنعه من المجيء أو الاتصال؟ بعد يومين وصلتها ورقة الطلاق، ورحل.

تذكرني قصتها المبتورة بقصيدة الشاعرالكبيرعبدالرحمن بن مساعد (رحل) التي يقول في آخرها:

أقسى مافي اللي بيجي.. كل الحكي والأسئلة:"
متى رحل؟ وليه رحل؟
ولّا تعابير الأسى على الوجوه الصامتهْ..
ولّا العيون الشامتهْ..
ولّا العذول اللي يقول: اللي حصل ماهو غريب..
واللي يقول: ماكان يستاهل يكون.. أغلى حبيب!
ياسيدي.. أقسى مافي اللي بيجي إني أقول: هذا كل اللي حصل.. رحل! "


إن أكثر المواقف جرحًا للكرامة هي تلك التي لا يمنحوننا فيها شرف تفسير النهاية، فتظل القصة معلقة كأنها لم تنتهِ رغم أنها انتهت ربما حتى قبل أن تبدأ، هي تلك الأشياء المؤلمة التي تقضّ المضجع بكلمة "ليش؟"، سؤال وجيه بخلوا علينا بإجابته واكتفوا بأن يعرفوها هم، ثم مضوا في حياتهم غير آبهين بالخراب الذي خلّفوه.

أيًا كان السبب الذي جعلهم يسوِّغوا لأنفسهم تعليق الأمر فهو ظلم صريح، إن وجود السبب (مهما بلغت به التفاهة) لهو أرحم من غياب السبب بالكلية، السبب الظالم مهما كان موجعًا يؤدي دور إنهاء القصة، يسدل الستار على ذلك الفصل من حياة الإنسان، إن تفسير الأمر سيمنحنا صلاحية البكاء على أمر نعرف ماهيته، كي يبدأ الجرح بالنزف بشكل طبيعي ليتحقق له الالتئام بعد ذلك بشكل طبيعي أيضًا، أما غياب السبب فيفتح آفاق التأويل على مصراعيها، يفقد الشخص ثقته بنفسه مما ينعكس على صحته العاطفية فلا يستطيع إكمال مشوار الحياة باستقرار نفسي، كل المشاكل التي سيتعرض لها فيما بعد ستؤول في النهاية لذلك السبب الذي حرم من معرفته، وتظل أموره معلقة بينما ينعم الشخص الذي علقها بحياة هانئة أبعد ما تكون عن الحيرة التي يعيشها الضحية.

قد تكون الضحية طفلة تزوج أبوها امرأة أخرى وانشغل عنها فلم تعد تراه، قد يكون رجلاً هجرته أمه وليدًا وأهملت حتى السؤال عنه، ، قد يكون موظفًا جهل سبب التغير المفاجئ في معاملة مديره له، وكم من الأصدقاء المقربين من انقطعت علاقاتهم بذات السيناريو البغيض: طرف ينسحب بلا تبرير ليدع الطرف الآخر فريسة الغضب والتساؤل المرير، صعب جدًا أن يتمكن الإنسان من مسامحة شخص تركه دون سبب، ربما يسامح من تركه مفتريًا عليه، ولكن على ماذا سيسامح من لم يعطِه سببًا يسامحه عليه؟

إن بعض الأسباب بها من العار ما يمنع الشخص من كشفها، أو ربما بها من التجريح ما يمنع الشخص من إبدائها إشفاقًا على الآخر، فمن رحل (أو تغيّر) ليس شريرًا بالضرورة، ولكنه لايتمتع بالذكاء العاطفي، ربما طلق الرجل زوجته مثلاً لإصابته بمرض يرفض التصريح به و يخشى أن يعديها، ربما ترك الصديق صديقه بأمر من أبيه الذي لن يرضى عنه إلا بتركه، وغيرها من الأسباب التي يمكن تفهّمها ولكن الشخص يأبى التصريح بها، وربما من حقه الاحتفاظ بأمور لنفسه، ولكن أن يفتح الباب للتأويلات المزعجة فهذا ما لا يحق له، يجب عليه أن يجد طريقة توفر على صاحبه الألم مهما كانت، إن الهروب من التبرير يعد في نظري جريمة في حق المبرر له، وينبغي على الشخص أن يتصف بالشجاعة الكافية لتحمل مسؤولية قراره وتبرير موقفه ولايكتفي بالاختفاء كأن شيئًا لم يكن.

أعطِهم سببًا ثم امضِ، أي سبب، أرى أن (وجود سبب وهمي ) أفضل من (غياب السبب الحقيقي) ، فالنهاية الوهمية ليست بأقل قيمة من النهاية الصادقة ما لم يكتشف زيفها، فإن كان السبب من السوء بمكان فوجود سبب زائف سيخفف من وطأة الأمر ويؤدي مهمة إنهاء الحكاية مهما كان الأداء رديئًا.

إليكم أيها الرائعون الذين لم يجدوا في أنفسهم ما ينفّر؛ فحاولوا مرارًا تبرير ما امتنع عن تبريره من تركهم (أو تغيّر) فجأة، وحاولوا عنوة تجريد الطرف الآخر من تحمّل مسؤولية قراراته، وحاولوا بكل ما أوتوا من منطق تصديق أنه واقع تحت تأثير الحسد أو الشعوذة.. كان هذا المقال.

جريدة الراية القطرية - الإثنين5/12/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=608158&version=1&template_id=168&parent_id=167

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

أعرتك ناظري.. ففقأت عيني!


- لكل من ذاق مرارة نكران الجميل من قريب، لكل من جرب قهر الجحود، كان هذا المقال..

قيل قديمًا "لايسهر الليل إلا من به ألم .. لا تحرق النار إلا رجل واطيها" ، وبذلك فمن ستلامس كلماتي أرواحهم هم أولئك الذين بذلوا صادق المشاعر لأجل شخص استغل الفرصة الأولى لا ليخذلهم فحسب، وإنما ليسحق أرواحهم بالإساءة الصريحة والهوجاء، إن كنت منهم فلست وحدك، ليسوا قلة، هم الآباء الذين "حجر" عليهم أبناؤهم لأجل دراهم معدودة، هي الصديقة التي فوجئت بزواج زوجها من صديقة عمرها، هو الموظف الذي نسب زميله جهده له وصعد على أكتافه، هي ربة المنزل التي أحسنت للخادمة فاستحلت الأخيرة حرمة بيتها، هو الزوج الذي أغدق على زوجته الدلال و الأموال وما إن ضاقت به الأوضاع المالية أو الصحية حتى تنكرت لما كان منه وتذمرت من القيام على شؤونه، هي الزوجة التي ضحت بجهدها ومالها ليقف زوجها على قدميه ثم أدار لها ظهره ما إن نجح في حياته ليستمتع مع غيرها بالخير الذي جعلها الله سببًا فيه، هو الشيخ الجليل الذي نهل طالب العلم من بحره ليكيل له التهم والانتقادات اللاذعة على وسائل الإعلام فيما بعد، هو ذلك الذي تحدث الشاعر معن بن أوس بلسان حاله قائلاً:


فَيَا عَجَباً لمن رَبَّيْتُ طِفْلاً ... ألقَّمُهُ بأطْراَفِ الْبَنَانِ
أعلِّمهُ الرِّماَيَةَ كُلَّ يوَمٍ ... فَلَمَّا اشْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ الْقَوَافي ... فَلَمَّا قَال قَافِيَةً هَجَاني
أعلِّمهُ الْفُتُوَّةَ كُلَّ وَقْتٍ ... فَلَمَّا طَرَّ شارِبُهُ جَفَاني



لا تزال الطبيعة الإنسانية تذهلني بقدرتها على التلون و ارتكاب مختلف أنواع الشرور، ما أصدق المتنبي حين وصف ناكر المعروف باللؤم في قوله " إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا "،فالحقيقة العارية هي أن بعض الناس مهما فعلت لهم لن يبادلوك الإحسان، بل وربما لن يتمكنوا من التوقف عن بغضك لأسباب مختلفة لسنا بصدد رصدها هنا، كلما مررت بموقف مشابه يقفز إلى ذهني المخزون الثقافي الذي اكتسبته طوال عمري حول هذا الأمر، حكم وأمثال وأشعار تفرض نفسها بقوة فأسترجعها كأنني أسمعها لأول مرة ، أكتب كلماتها في محرك البحث جوجل وأخرج النصوص كاملة والمناسبات التي قيلت فيها، التجربة الإنسانية مذهلة، كلنا نمر بنفس الخبرات رغم اختلاف الأزمان.

شد انتباهي أن النصوص التي كتبها الأولون في نكران الجميل بها كم فظيع من الألم أجزم على إثره أنه آتٍ من تجربة الشاعر الذاتية، بها نزف أكاد أشتمه من وراء شاشة اللابتوب بعد أن وحدتنا التجربة الإنسانية القادمة بقوة من عصور أخرى، إن السبب في فداحة الصدمة ليس الفعل نفسه فحسب، وإنما الفطرة السليمة التي لم تجبل على هذا الجحود، بل إن النكران كان سببًا في دخول النار حيث إن ناكرات العشير هن من أهل النار كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

على الجانب الآخر، فإن ثمة خطأ قد يقع ويتمادى فيه ضحايا نكران الجميل، ألا وهو المن، قد تتعالى أصواتهم بالتحسر على ماكان منهم من معروف في الماضي؛ رغم أنهم كانوا يريدون به وجه الله، هي ردة فعل طبيعية بلاشك، ولكنني أنأى بصاحب المعروف عن النزول إلى مستوى ناكر المعروف، ربما نال تعاطف الآخرين ولكن الأمر لن يغير من الواقع شيئًا، حاول أن تسقطهم من حساباتك وركز إحسانك على من هم أولى بمحبتك، وتذكر الإرث الثقافي الثمين الذي تركه لنا الأولون في صورة مثل يقول"سو خير و قطه بحر" ، فلا شيءَ ضائعَ عنده سبحانه، استبدل الشكوى والمن بالصبر واحتساب الأجر، إن صدمتك بهم ليست نهاية القصة، سترسم النهاية يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم..

*العنوان من قصيدة للشاعر د.محمد عبدالمطلب جاد.




جريدة الراية القطرية   - الإثنين28/11/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=606782&version=1&template_id=168&parent_id=167

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

اللبن المسكوب أم الماء المسكوب؟



ندور أحياناً في دوائر مفرغة نظل فيها نبكي على (اللبن المسكوب)، يتوقف الزمن عند البعض مع خيبة أمل يرفض بعدها المفاوضة حول وضعه، فيترك الجمل بما حمل عوضاً عن إصلاح ما يمكن إصلاحه، يخسر بذلك أموراً كثيرة أبرزها إيمانه الذي يضعف جراء استسلامه للإحباط ولومه للآخرين والتحجج بأعذار تلو أعذار، يتعذر تارة بالظروف، وتارة بالسن، وتارة بسلطة غيره عليه، والبعض يتحجج حتى بجيناته، فلا يقاوم بل يستسلم بالكلية.

ربما حرم شخص نفسه من السعادة مع شريك حياة رائع ليتفرغ للتحسرعلى حبيب الأمس الذي خذله، وأخرى تترك نفسها فريسة القهر والغضب والغيرة بسبب زوجها الذي تزوج بأخرى، وآخر يرفض مواجهة مشكلة وزنه الزائد بجدية ويفضل التقوقع على ذاته ثم لا يكتفي بالاستسلام لوضعه بل يمعن في إيذاء نفسه بالانغماس أكثر فأكثر في التهام كل شيء دون حساب فهو إما رشيق ذو وزن مثالي وإما سمين لدرجة مرضية، إنهم لا يؤمنون بالحلول الوسط، التي ربما تكون هي سر السعادة الحقيقية.

إن الحلول الوسط (فن) بحاجة للمتابعة والتدريب، وكلما ازداد إتقانك لهذا الفن استطعت أن تبدع في تسيير أمورك بشكل أفضل، من الأمثلة الرائعة على ذلك ما ورد في كتاب (حدائق الملك) للمغربية فاطمة أوفقير التي قام محمد الخامس بسجنها هي وأطفالها وخادمتيها سنوات طوالا في عدد من الزنزانات المتقاربة دون أن يسمح لهم برؤية بعضهم البعض حيث كانت المواعيد اليومية لخروج كل منهم من الزنزانة تختلف عن الآخر، فما كان لديها من حيلة لترى أطفالها إن هم مروا أمام زنزانتها إلا أن تسكب بعض الماء على أرض الزنزانة قرب فتحة الباب السفلى وتمعن النظر في (الماء المسكوب) آملة أن يمر أحد أبنائها فترى انعكاسه على الماء، وكان لها ذلك، إن تمتعها بفن الحلول الوسط حال بينها وبين الجنون عشرين عاماً سجنت فيها في عدد من السجون والإقامات الجبرية، ظلت فيها تحتال بطرق عجيبة لتستطيع اختراع وسائل لقضاء الحاجة ووسائل لحفظ الطعام ووسائل للتواصل مع أبنائها وتعليمهم! بل وحتى وسائل للاستمتاع بالوقت تحليقاً بالخيال، وفي النهاية استطاعت هي ومن معها الهرب من السجن المرعب بحفر نفق بوسائل بدائية جداً وإخفاء آثاره بذكاء مذهل، ولم يصدق أحد أنهم تمكنوا من الفرار بل أصر البعض جازماً أنهم استعانوا بالجن.

نحتاج أن نتعلم ونعلم أبناءنا فن الحلول الوسط، لا بد من وجود أرضية صلبة تقف عليها مهما كان وضعك، لا بد من المساومة كي تستطيع إكمال مشوار الحياة بسلام داخلي ونجاح على أرض الواقع مهما كان حجمه بسيطاً، العبرة ليست بالإنجاز بحد ذاته وإنما بسعيك المستميت له وإصرارك على استحقاقك الأفضل، استمع لذلك الصوت الداخلي المتألم الذي يحاول انتشالك من الاستسلام للإحباط، إن سر انزعاجك الشديد من وضعك هو إيمان فطري بأنك لا تستحقه، وبالفعل كلنا يستحق الخير، استغل ذلك الصوت الهامس واجعله يعلو في داخلك، أنصت له جيداً، هو يقول إن هذا الوضع لا يلائمك، إنك أفضل من هذا، وهذا يعني أنك تستطيع الحصول على الأفضل الذي تستحق، ليس بالضرورة أن يكون الأفضل شيئا تحدده بمزاجك، هو أفضل من الآن وهذا ما يهم في الوقت الحالي.

فيا من يكره في زوجته خلقاً ما، تعامل مع الوضع بحكمة وتذكر أنك إن كرهت منها خلقاً رضيت منها آخر، يا من "طردته" الجامعة أتعجز عن بعض الدورات هنا وهناك تطور بها من مهاراتك؟ فإن لم يكن البكالوريوس من نصيبك فلا تحرم نفسك مما هو دونه، يا من لم يرزق الذرية ما رأيك في الحل الوسط الذي يشبع رغبتك في وجود الأطفال بكفالة يتيم أو التطوع لدى مؤسسات تعنى بالأطفال؟ بل يا من أردت أن تصبح رائد فضاء ألا تستطيع الآن اقتناء تلسكوب يقربك من النجوم لتعيش معها سويعات يومية تشبع فيها رغبتك في السباحة بين المجرات؟ إنها (الحلول الوسط)، تلك المساحة الرمادية الفسيحة الرائعة الموجودة بين ضيق سواد الإحباط وسعة بياض الأحلام.



جريدة الراية القطرية الإثنين21/11/2011
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=605490&version=1&template_id=168&parent_id=167

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

.. وأمسكت بالقلم

ما أجمل أن تتخذ بادرة العودة فتمارس أمراً تحبه بعد فترة انقطاع، هي خطوة أولى قد تستثقلها النفس ولكن ما إن تتم حتى تتلوها خطوات أخرى متتابعة سلسة، اتخاذ قرار العودة قد يستغرق الشخص أعواماً طوالا تكون فيها العودة فكرة لذيذة تداعب خياله كلما خنقته مشاغل الحياة، ولكنه يؤجلها لأسباب منها التكاسل أو خشية الفشل أو ضيق الوقت بسبب سوء إدارته.

كثير من الناس يترك هواياته بعد أن تشغله الحياة بالعمل أو التجارة أو الزواج أو غيره، إنك حينما تمارس أمراً تحبه تكون "أنت"، لا تكون فلاناً الأب، ولا فلاناً الزوج، ولا فلاناً الموظف بالهيئة الفلانية، لست فلاناً ابن العائلة الفلانية، ولا فلاناً ذا المستوى المادي الفلاني، تتحرر من جميع القيود والمسميات، لتكون أنت أنت، مستجيباً لصوتك الداخلي الجميل.

إنه الوقت الذي تكون فيه ممسكاً بريشة ألوان وتفرغ في اللوحة بعضاً من خلجات نفسك، أو مراقباً للعالم من وراء عدسة كاميرا ترصد جمالاً لا ينتبه له الآخرون، أو ممسكاً بصنارة صيد متأملاً في الأفق على مد المحيط ترتقب صيداً مجهولاً من عالم لا تراه فوق السطح، أو جالساً بين مقاعد ملعب لكرة القدم متفاعلاً مع حركات اللاعبين و محاطاً بانفعالات المشجعين وصفارات الحكام، أو مبتكراً لطبخة ما تستثير حاسة التذوق لدى من معك وتثير إعجابهم بمهارتك، أو صانعاً لسيارة عتيقة بتركيب قطع من سيارات الماضي لتبتكر تحفة فنية من مركبات الزمن الجميل، هو ذلك الوقت الذي ندين به لأنفسنا، الذي ننفصل فيه عن تحديات الواقع وتراكمات الماضي، الذي ننسى فيه الأهل الذين تنكروا أو الأصدقاء الذين ابتعدوا أو الأحبة الذين تغيروا.

يستهين الكثيرون بأهمية قضاء وقت يمارس فيه الإنسان شيئاً يحبه أو يجيده، سواءً بهدف الترفيه أو ربما لكسب مصدر دخل إضافي، تتضاءل همومنا حينما نشغل مساحات الخاطر بمهارات كتلك، لا يبدو الواقع بالسوء ذاته، ولا العدو بالخبث ذاته، ولا الشريك بالتقصير ذاته، يطول بالنا أكثر في مواجهة تحديات تربية الأبناء ومشاكل الخدم، ويتسع صدرنا أكثر لاحتمال مضايقات زملاء العمل، يكون الهم جزءاً من حياتنا بدلاً من أن تكون حياتنا جزءاً من الهم.

كم من خيانة زوجية كان من الممكن تفاديها لو أن الزوج انشغل عن المرأة الأخرى بصقل هواية ما، وكم ضاقت ذات اليد بأناس كان يمكنهم أن يرتقوا بمستواهم المعيشي بكسب رزقهم من مهارة أوجد الله جذورها فيهم لكنهم ما رعوها حق رعايتها بل دفنوها في دواخلهم حتى كادت أن تختفي، بل كم من أمراض نفسية كان يمكن أن يتفاداها الشخص لو أنه أشغل باله باهتمام صحي في إنجاز أمر يحبه فتتحقق له ثقته بنفسه وإحساسه بكفاءته، وكم من زوجة اختارت الطلاق لا لشيء سوى أن مشاكل الحياة الزوجية كانت في عينيها أكبر من حجمها الحقيقي لأنها لم تتمكن من التفكير بعقلانية إذ لم تخرج نفسها من الجو العام بممارسة أمر تحبه يبعث في داخلها الأمل بالتغيير.

هو مقال أول، مصافحة أولى ودعوة لنفض الغبار عن ذواتنا، للعودة لأمر كان، لعل الزمن الذي قضيناه بعيداً عن أنفسنا قد صقل بعضاً من أرواحنا، لنعود لممارسة تلك المهارة بحكمة أكبر وصبر أجمل حتى نسترجع تلك القدرة الجميلة بعد طول انقطاع، وفي كثير من الحالات كانت العودة أجمل، كحال المرأة التي كانت تهوى الطبخ ثم انشغلت عنه أعواماً لتعود بعدها بإشراق أكبر فتفتتح مطعمها الخاص وتمارس المهنة احترافاً، العودة أجمل لأن حافزها أعمق، أتت من باب الضرورة و لم تأتِ ترفيهاً فحسب، أتت كاستراتيجية للبقاء، للمحافظة على الصحة النفسية للشخص حتى يظل متزناً في مواجهة أمواج الحياة المتلاطمة، ما أجمل العودة وهنيئاً للعائدين.



جريدة الراية  القطرية - الإثنين14/11/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=604159&version=1&template_id=168&parent_id=167

الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

ويحك.. ألم تبن البيوت إلا على الحب؟




يدور هذا السؤال في خلد الكثيرين، هل الحب وحده كافٍ لإنجاح العلاقة؟ هل يمكن أن تكون في شريك الحياة عيوب تطغى على الحب ولكنها لاتقتله؛ فيظل الشخص مذبذباً بين مشاعره التي تعلقت مرضياً بشخص ما وبين عقله الذي يرفض الإهانة، يصبح بذلك حبك لشخص ما إعاقة تعاني منها، وكأنها لعنة تحاول الخلاص من براثنها، وفي النهاية؛ ليس بالضرورة أن ينتصر الحب وتنجح العلاقة، مهما أردنا لها ذلك.



أذكر قصة لإحدى السيدات في مجتمعنا، حارب زوجها كل شيء ليتزوجها، فعل المستحيل ليتم ذلك الزواج رغم العقبات الشديدة التي كانت تحول بينه وبينها، كان يحبها حباً عنيفاً يتحدث عنه كل الأقارب والمعارف في مجتمعنا المحافظ! وددت لو أنني ذكرت تفاصيل قصة زواجه بها إلا أنني نأيت عن ذلك خشية أن يتعرف أحد على الشخصيات في الواقع، اكتشفت زوجته بعد الزواج إدمانه على العلاقات النسائية، وتكررت خياناته ،وفي كل مره "تصيده" يبكي ندماً ويعدها بأنه سيتغيرفتصدقه، ولكنه لايستطيع ترك "خرابيطه" ثم تعود لـ"تصيده"،وظلا على هذه الحالة لسنوات، حبه لها لم يثنه عن العلاقات المحرمة، حتى نفد صبرها في النهاية إذ استنزفت كل طاقتها معه من أجل الحب الذي "لم يكف"، ورغم عدم شكها في حبه الشديد لها،ورغم أنهما قد كبرا في السن وكبر أبنائهما، إلا أنها انهارت في النهاية وأصرت على الانفصال وافترقا وسط ذهول الناس ممن لم يتوقعوا أن فلاناً سيترك فلانة!



رأيي ليس عدم كفاية الحب فحسب، وإنما أرى بكفاية اللا-حب، وأذكر هنا قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عاتب رجلاً أراد أن يطلق زوجته لأنه لايحبها فقال له "ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟"، أستغرب كثيراً ممن يرى أن ((الحب)) .. تلك المشاعر المرتبطة بكيمياء الجسم .. تلك الأحاسيس التي ينبض بها قلب متقلب وتسيرها روح ليست ملكاً لصاحبها: هو وحده المسئول عن نجاح العلاقة من عدمه، أهناك بوليصة تأمين على المشاعر استلم صكها أولئك الحالمون ولم أعلم بها؟


إن عدم وجود الحب لايعني الكره بالضرورة، الاحترام والثقة أمران قد يغنيان عن الحب بل يفوقانه أهمية وربما دخلا ضده في معركة يفوزان بها بجدارة فتفشل العلاقة التي لم ينجحها الحب، ثم إن نوع الحب نفسه قد يكون سبباً في إفشال العلاقة، فليس كل حب جميلاً، هناك أنواع مشوهة من الحب تدفع بصاحبها إلى الشقاء وقصور التفكير، فكم من امرأة عشقت زوجها حتى وصلت لدرجة الغيرة الهوجاء والشك والحساسية الشديدة لأي موقف، فنفرته منها وجعلته يكره حبها له، وفي هذه الحالة عدم كفاية الحب ليست سبب إفشال العلاقة، وإنما نوع الحب هو مازعزع أركان ذلك البيت، والأمر ذاته ينطبق على الأزواج ممن وصل حبه لزوجته لدرجة التملك والشك فحرمها من كل ماسواه حتى كرهت الزواج وفقدت طعم السعادة.




قد يزعج كلامي هذا الرومانسيين الذين يرون بالفاعلية القصوى للحب في إصلاح كل شيء، وددت لو أن الحب هو تلك العصا السحرية التي تحل كل المشاكل، ولكن الواقع أمامي يقول أن القيم المثالية كالحب والطيبة والوضوح ليست ما ينجح العلاقة، وإنما الصفات العملية كالذكاء والحكمة والصبر والاستقلال العاطفي وغير ذلك من صفات السعداء في علاقاتهم، تلك الصفات التي إن تمتع بها الشخص فإنه سيستطيع معالجة كل طارئ بتجرد من أحكام القلب التي كثيراً ماتكون مشوشة وغير حيادية.



الكلام في الحب يطول ولامجال هنا لشرح الكثير، لطالما بحثت في عالم الحب الغريب وقرأت عنه في كتب الأولين ومنها أستاذ الحب كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي ،وكتب المحدثين كروايات العصر الحديث والكتب المعنية بالعلاقات، وأذكر في هذا المقام الإصدار القطري المتميز كتاب(مجنون ليلى بين الطب والأدب) للدكتور حجر البنعلي، لأجد أن الحب بمعناه السائد في الإعلام بين الجنسين هو حالة من الضعف يرفض عقلي تقبلها بل لاأراني يوماً متجردة من أحكام العقل لأجري وراء ماتمليه علي حالة من التخبط الكيميائي البحت أو "التوهان" النفسي الذي أراه _عُذراً_ مضحك.

قرأت مرة أن عمر الحب العنيف قصير، مما يؤكد على أن الحب _مهما غرتك قوته_ ليس لايكفي فحسب؛ وإنما زواله وارد جداً ، المشاعر القوية الهائجة أكبر من أن تستمر، فالحب المجنون مثله مثل الكره المجنون، أكثر شدة من أن يستمر، لاتحتمله أرواحنا، وهو أولى من غيره بالفتور والاضمحلال، فلايغرنك الحب واجعل لك في كل أمورك خط رجعة.
أوردت الكاتبة الأميركية شون سولفو ضمن سيناريو فيلم (ماجدولين الكابتن كوروللي) المبني على الرواية الإنجليزية بذات العنوان لقصة حب تدور أحداثها وقت الحرب العالمية الثانية؛ بأنك عندما تقع في الحب، فإنه جنون مؤقت، يهجم كزلزال، وبعد ذلك يهدأ، وعليك بعد أن يهدأ أن تتخذ القرار، إما أن تجتهد في معرفة ما إذا كانت جذوركما قد أصبحت متصلة ببعضها لدرجة أنه من المستبعد أن تفترقا في يوم ما، وذلك أن هذا هو الحب.. الحب ليس حالة تسارع الأنفاس، إنه ليس تلك الإثارة، ولاتلك الرغبة الشديدة في لقاء ذلك الشخص في كل ثانية من اليوم، تلك الأمور ليست الحب وإنما هي حالة "الوقوع" في الحب ؛ الأمر الذي يستطيع أي منا إقناع نفسه بالشعور به، الحب نفسه هو بقايا تلك الحالة بعد أن تخمد نار الوقوع في الحب، لايبدو الأمر مثيراً لتلك الدرجة، أليس كذلك؟ ولكنه كذلك.

هذه ليست دعوة لعدم الحب، وربما يستحيل ذلك، وإنما هي دعوة لحقن العلاقات بجرعات من العقلانية التي لن تقلل من الرومانسية وإنما ستقلل من أضرار الاندفاع الأهوج خلف مشاعرغير مبررة بالضرورة.