الأحد، 30 ديسمبر 2012

رحلة إلى وطن من نوع آخر

يفتخر بأسفاره الكثيرة التي امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها، لايدع أي فرصة للسفر مهما قصرت المدة إلا استغلها، وأثناء رحلاته العديدة إلى بقاع الأرض المختلفة تمر الطائرة دائماً على بقعة وحيدة لم تطؤها قدماه.
 
يراها على الخارطة في شاشة الطائرة أمام مقعده، ورغم أن الطائرات تتجه لها يومياً من كل مكان إلا أنه لم يكن على متن أي منها، يتجاهلها رغم أن المؤشر الأحمر يتجه نحوها هي بالذات، يتجاهلها رغم أنه يصلي خمساً يومية باتجاهها.
 
في الوقت الذي يدفع فيه الكثيرون الغالي والنفيس في سبيل الوصول إلى تلك البقعة المباركة، فيقطعون البحار والجبال، ويبيعون ممتلكاتهم المتواضعة، وربما قضوا السنين الطوال في جمع المال لتذكرة طيران واحدة، يوجد آخرون لاتفصلهم عن بيت الله الحرام سوى سويعات قليلة، يتمتعون ببسطة في العلم والجسم، لكنهم بخلوا على أنفسهم بفضل عظيم.
 
لاتحرم نفسك لذة الابتعاد عن هذه الدنيا ومافيها والفرار إلى الله، يحتاج كل إنسان إلى رحلة روحية يغسل فيها ما اعتراه من خسائر وهموم، ويسجل فيها امتنانه للكريم الرزاق، هي رحلة يتجدد بها العهد، رحلة من وطن إلى وطن من نوع آخر.
 
منظر الأكفان المحمولة على الأكتاف وهي تطفوا بخفّة بين أفواج ضيوف الرحمن منظر مهيب، ذلك أن هؤلاء يُزفون إلى جوار الكريم ويصلى عليهم في بيته سبحانه، يغبطهم على هذا الشرف زوار هذا البيت فكأنما انقلبت موازين الدنيا إذ يُغبط الميت على موتته مهما كان صغيراً، لكنها الموازين الحق..موازين الآخرة الباقية.
 
وكما يقال فنحن أصلاً غريبون في هذه الحياة على هذا الكوكب في هذه المجرة، الجنة هي الوطن الأم الذي خرجنا منه لنغترب هنا حتى نعود هناك، بل إن مايشعر به الإنسان في الدنيا من ضيق قد يكون من أعراض الغربة وشوقاً إلى موطنه الأصلي حيث كان أبوه آدم عليه السلام، فالإنسان لايمل من الوطن إلى درجة أن يريد تركه للأبد، لكن الكثير من الطاعنين في السن يصرحون بأنهم سئموا حقاً من العيش ويرغبون في الرحيل أخيراً بلاعودة، حيث أن مدة الاغتراب لديهم طالت كثيراً (بطول أعمارهم) مما أطال مدة ابتعادهم عن الجنة وطنهم الأول حيث الراحة الحقيقية.
 
يوافق نشر مقالي اليوم الأخير من عام 2012، أكتبه من جوار الحرم المكي حيث يطوف الإنس حول البيت العتيق وفوقهم ملائكة كرام يطوفون في السماء السابعة حول البيت المعمور، تحت هذه السماوات المفتوحة يبدو كل شيء ممكناً، ويبدو من الممكن جداً أن يختلف هذا العام عما سبقه، اللهم فرج عن المسلمين.
 
جريدة الراية القطرية- الإثنين 31/12/2012 م
 

الأحد، 23 ديسمبر 2012

ماعندي وقت

لو طلب منك رئيسك في العمل مهاما يستغرق إتمامها ساعة يومياً لمدة أسبوع لتمكنت من التصرف لخلق هذه الساعة مهما ازدحم يومك، لو تعرض قريبك لحادث لتمكنت من إيجاد الوقت لعيادته في المستشفى يومياً حتى يتعافى، لو أصبت بمرض يعالَج بالرياضة لوجدت الوقت لممارستها بانتظام.
 
ستتمكن من القيام بالأنشطة أعلاه مع حفاظك على مواعيد الصلوات، لن يخلو جدولك هذا من النوم والأكل وغير ذلك من الأساسيات، بل قد تتمكن من القيام ببعض الكماليات كالاطلاع على مواقع التواصل الاجتماعي، ستجد الوقت لاشتهاء قطعة حلوى من مقهى بعينه تشد رحالك إليه، وربما توقفت أثناء طريقك عند محل حلاقة لتغيير قَصة شعرك بلا مناسبة.
 
أحاول تفادي استخدام عبارة "ماعندي وقت" لأنني أسمعها من أكثر الناس تضييعاً للوقت ولا أكاد أسمعها من أكثرهم إنجازاً، رغم أن الوقت هو ذاته لدى الطرفين، لعل الترجمة النفسية لجملة "ماعندي وقت" هي "ليس لدي الدافع لإيجاد الوقت" أو "أتكاسل عن بذل الجهد لإتمام هذا الأمر".
 
كثيراً ما يُحَدث الإنسان نفسه بعبارات مثل: "الوقت ضيق"، و "لا بركة فيه"، وغير ذلك من القناعات التي نزرعها في مجتمعاتنا بترديدها بشكل مكثف لنبرر بها سوء إدارتنا للوقت، ونحن بذلك نجذب مزيداً من الانشغال المفتعل الذي لا إنجازات تذكر من ورائه، الانشغال الإيجابي يقاس بالأمور المنجزة لا بمجرد مرور الوقت، فالوقت مار لامحالة، يقول المخترع توماس أديسون "كونك مشغولاً لا يعني دائماً قيامك بعمل حقيقي".
 
التعذر بالانشغال لتبرير الخيارات الرديئة في الحياة أمر يقع فيه الجميع، قد ينشغل شخص عن السؤال بشكل أكبر عن المرأة التي يود الاقتران بها فيدفع ثمن انشغاله هذا عمراً من التعاسة وربما وجد متسعاً من الوقت فيما بعد للجوء إلى خدمات الاستشارات العائلية، كم من شخص وقع فريسة السمنة لادعائه الانشغال عن الرياضة، وكم أصيب أفراد بأمراض مزمنة لتعذرهم بالانشغال عن شراء الطعام الصحي واستبداله بالوجبات السريعة، رغم أنهم بعد أن يصابوا بالأمراض سيجدون للعلاج أو الرياضة وقتاً يومياً أطول مما قد تستغرقه الرياضة وإعداد الطعام الصحي على مدى السنوات السابقة.
 
يقول الكاتب الصيني لين يوتانغ "المشغول ليس حكيماً و الحكيم ليس مشغولاً" ، وإن لم تجد في نفسك الحكمة الفطرية لإدارة وقتك فبإمكانك اكتساب مهارات إدارة الوقت عن طريق الدورات أو الكتب وغير ذلك، سيكون من الطريف حقاً لو كان الرد على هذا الاقتراح : "ماعندي وقت".
 
الراية القطرية - الإثنين 24/12/2012 م

الاثنين، 17 ديسمبر 2012

شيء معين

حين كنت طفلة في بداية تعلمي للكلام كنت كعادة الصغار كثيرة البكاء، وعند احتدام بكائي يوماً سألني أبي بنفاد صبر: "هل هناك شيء معين تريدين الحصول عليه!؟" وذلك في محاولة يائسة لإسكاتي بلغة الكبار، فهدأت ورددت بالإيجاب، فتفاجأ وسألني مستبشراً "حسناً، ماهو؟!" قلت: "أريد.. مُعَيَّن".
 
وظلت هذه الحادثة مادة للضحك في العائلة حتى كبرت وعرفت أن بحثي عن المعين لم يتوقف يوماً، إلى أن وجدت بعضه في الكتابة عن النفس الإنسانية، فأصبحت بين أيديكم كل اثنين، ورغم تواضع كتاباتي لكنها بالنسبة لي حالة وجدانية تمنحني السلام الداخلي.
 
ذلك الشيء المعين هو ما يبحث عنه الجميع، وهو يختلف باختلاف اهتماماتهم، كل إنسان بحاجة إلى شغف لذيذ يشعل في داخله رغبة الحياة، قد يكون هذا الشيء المعين الذي تحتاجه متعلقاً بطموحك الأكاديمي وتعطشك الدائم للمعرفة، آخرون يبحثون عن شيء معين يحقق لهم أمانا ماديا كالتجارة، الشيء المعين هو شغف يشغل صاحبه ويشعره بالمتعة.
 
البعض استطاع اكتشاف ذلك الشغف وربما وجد وظيفة تتعلق به فأصبح شغفه مصدر رزقه مما جعله من السعداء، البعض الآخر وجده واكتفى به كهواية يخصص لها من وقته ويواجه بها ضغوطات الحياة، وهناك من الناس من تعددت اهتماماتهم فأصبحت حياتهم مزدحمة بالأحداث الممتعة.
 
على الجانب الآخر، هناك أفراد لم يجدوا بعد ذلك الشيء المعين الذي يسعدهم القيام به، وهناك من عاش ومات دون أن يجده، ما أتعس الحياة حين تعيشها بلا شيء يثير اهتمامك وتستمتع بالقيام به، إن غياب ذلك الشيء يعني غياب الرغبة المشتعلة في عروق الإنسان؛ التي تحرك كل جوارحه وتحقق له الإثارة التي تشعره أنه حي.
 
لكي تعرف الشغف الذي يناسبك عليك أن تبحر في رحلة لاستكشاف الذات، قد تكون محباً للحيوانات مثلاً فتبحث عن أنشطة متعلقة بهذا الشغف، وهناك من لديه شغف مساعدة الآخرين فيشغل وقته بالتطوع وتقديم الخدمات مما يمنحه السعادة، آخرون لديهم شغف متعلق بالصحة ويسعون لاكتساب المزيد من المعلومات للعيش بأسلوب حياة صحي أكثر، أياً كان الشغف الذي يحركك ومهما كان بسيطاً في نظر الآخرين؛ تمسّك به.
 
جريدة الراية القطرية - الإثنين  17/12/2012 م
 

الأحد، 9 ديسمبر 2012

الرياضة هي الحل

يقول الشاعر سعد علوش في مطلع قصيدته (ألعب حديد):
 
"ماهو علشان الجسم..
ولا علشان النسم..
عشان هالراس العنيد : ألعب حديد "
 
"..وأقول لا طاح الأرق مع العرق:
هل من مزيد؟ "
 
ومما تتحدّث عنه القصيدة دور المجهود الجسدي في حماية الإنسان من الآثار السلبيّة لضغوطات الحياة، أو في حمايته من نفسه في مواجهة الصراعات الداخليّة.
 
العرق هو الدموع التي يذرفها الجسد ليُخلّصنا من سموم الفكر أو تراكمات الماضي أو إحباطات الحاضر، العرق بكاء من نوع آخر؛ نوع صحي يُساعد في التنفيس عن الغضب وتفادي المزيد من الخسائر التي قد يتسبّب بها الإنسان لنفسه إن لم يجد مُتَنفّسًا آخر لتفريغ المشاعر السلبيّة.
 
للرياضة فوائد جمّة لست بصدد ذكرها الآن، أُركّز في هذا المقام على فائدتها النفسيّة، ومن خبرتي الشخصيّة المتواضعة في بداية مشواري مع الرياضة أنها تخلق في داخل الإنسان ضوءًا ما، تسارع ضربات القلب يجعل الروح مقاتلة ومتحفّزة لإنهاء كل مابَدَأَته على صُعد الحياة المختلفة، هذا عِوضًا عن مفعولها السحري في تعزيز الثقة بالنفس.
 
أكاد أجزم بوجود صلة بين لياقة الجسد وخشوع الروح، فحتى في وقت الحج أو العمرة حين يكون الإنسان أبعد ما يكون عن الدنيا وفي أطهر بقاع الأرض فإن الله يُريد منه القيام بمجهود بدني لن يتمكّن من القيام به دون مساعدة إلاّ إذا تمتّع بلياقة عالية كالطواف حول الكعبة سبع مرات تتضاعف مسافتها مع الازدحام، وكالسعي بين الصفا والمروة في سبع أشواط تتخللها هرولة.
 
وقد وردت أمثلة كثيرة عن الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم كمواظبتهم على قيام الليل الطويل وكمهاراتهم الحربية المُذهلة وغيرذلك ما يستدل منه- باستخدام كلمات هذا الزمان- على أجسامهم الرياضيّة ولياقتهم العالية.
 
ومن الأمثلة الغربية الحديثة سيدة أمريكا الأولى ميشيل أوباما التي تبدو على درجة عالية من الهدوء والبشاشة رغم أن النقّاد يُحاصرونها بالتنقيب عن عيوب في كل ما تفعله أو حتى ترتديه، هذا عوضًا عن حساسية وضعها السياسي، تحدّثت السيدة أوباما عن علاقتها بالرياضة قائلة: "الرياضة مهمّة حقًّا بالنسبة لي، إنها وصفة علاجيّة، فأنا كلما شعرت بالتوتّر أو القلق أو شعرت بأنني على وشك التعرّض لانهيار؛ أحضر جهاز الآيبود الخاص بي وأتوجّه فورًا إلى الصالة الرياضيّة، أو أركب دراجتي في جولة بمحاذاة بحيرة ميشيغين مع البنات".
 
أرى أن الشخص الذي لا يستطيع من إلزام نفسه بممارسة أي مجهود هو شخص في الحقيقة أمامه مشوار طويل من تدريب الإرادة وتهذيب الذات، يقول جاك لالين Jack LaLanne خبير اللياقة البدنية الشهير: "أنا أُمارس الرياضة كعلاج، كشيء يُبقيني حيًّا، كل منّا يحتاج لبعض التأديب، وأنا أُؤدب نفسي بالرياضة".
 
جريدة الراية القطرية - الإثنين 10/12/2012 م
 

الأحد، 2 ديسمبر 2012

اترك مسافة

نحن لا نتحكم بمزاج سائق السيارة التي أمامنا إن أراد التوقف فجأة، فإن لم نترك بيننا وبينه مسافة يكون اللوم علينا عند الاصطدام، لا تتوقع من الآخرين أن يقوموا بأدوارهم على أكمل وجه، أنت لست مسؤولاً عن أخطائك فحسب وإنما عليك كذلك حماية نفسك من أخطائهم، فأنت الشخص الوحيد القادر على توفير البيئة الآمنة لذاتك.
 
بشكل أو بآخر نحن شاركناهم ما ارتكبوه في حقنا، لن أسألك عن الصديق هجرك ولكن أسألك لماذا لا يوجد في حياتك مصدر آخر للفرح، لن أسألك عن الحبيب الذي آذاك ولكن أسألك من الذي فتح له الباب وسمح له أن يلعب بك، لن أسألك عن الابن الذي خذلك ولكن أسألك لماذا رفعت سقف توقعاتك عالياً.
 
أتجنب الإشفاق على من يشتكي من أخطاء الآخرين في حقه وإن كان ذلك الشخص هو أنا، لأن الحياة أعطتني من الدروس ما جعلني أرى في لوم الآخرين ضعفاً ومضيعة عمر، لا أتحدث هنا عن الظلم الصارخ في حق من لاحول لهم ولا قوة، بل أرى في الاستهانة بذلك قسوة ولا إنسانية، ولكن أتحدث عما كان بالإمكان تفاديه، أتحدث عن الفرص التي منحناها لهم ليُمعنوا في إيذائنا أكثر، أتحدث عن الباب الذي فتحناه بأيدينا ليدخلوا منه سكاكينهم، إنه المنطق الذي يحتم عليك حماية نفسك ويذكرك مراراً وتكراراً أن لا تثق بأحد، وكما يقال: حتى ظلك يتخلى عنك في الأماكن المظلمة.
 
ولأترك التشبيهات جانباً، فأنا أتحدث تحديداً عن زميل العمل الذي كشفت أمامه نقاط ضعفك ليستخدمها ضدك في أول اجتماع، أتحدث عن الحساب البنكي المشترك مع زوج يستخدمه في شراء هدايا للصديقات، أتحدث عن الزوجة التي كشفت عيوب أهلها أمام زوجها ليعيّرها بهم عند أول خلاف، أتحدث عن الغباء، عن السذاجة، عن الإهمال، سمها ما أردت، فأنا وأنت نعرفها جيداً.
 
لابد أن يترك كل إنسان مسافة من المنطق تمنحه الأمان وتحول بينه وبين أذى الآخرين له أو حتى أذاه هو لنفسه، علمتني أمي وأنا صغيرة أن أفكر جيداً قبل القيام بأي تصرف كي لا أندم، الأمر حقاً بهذه البساطة، التفكير بروية هو مسافة المنطق التي ينبغي أن تحول بيننا وبين أخطائنا أو أخطائهم في حقنا، أترك مسافة من المنطق بينك وبين كل شيء، بينك وبين أعدائك وزملائك وأصدقائك وحتى أقرب الناس إليك، والأهم من ذلك: أترك مسافة من المنطق بينك وبين قلبك.
 
 
جريدة الراية القطرية - الإثنين 3/12/2012 م
 

الأحد، 25 نوفمبر 2012

هل ستندم؟

سُئِل أحد المشاهير: لو استطعت الرجوع بالزمن إلى الوراء ما الذي ستُغيِّره في حياتك؟ فأجاب بلا تردد: لن أغيِّر شيئًا، فأنا لم أندم على أي تصرّف قمت به، كل موقف مرّ بي ساهم في إيصالي إلى ما أنا عليه اليوم من نجاح.
 
أتفق معه في بعض ما قال، حيث إن كل ما نمرّ به يتحوّل مع الوقت إلى خبرات نستفيد منها، ولكني أرى أن من الغريب ألا نندم على أخطائنا البشرية، فالندم جزءٌ من التجربة لا ينبغي أن نلغيه، كيف لا نندم على أخطائها ونحن من يدفع ثمنها من أعمارنا؟
 
كما أن من لا يندم هو في الحقيقة شخص يترفّع عن ضعفه البشري، ولن يسعى فيما بعد إلى تعويض نفسه أو من حوله على تقصيره معهم أبدًا، فالندم قد يكون المحرّك الأقوى للعطاء نحو من قلّ عطاؤنا نحوهم بعذر الانشغال وغيره.
 
وتساءلت، لو عاد بي الزمن إلى الوراء أي أمور كنت سأغيّرها؟ فتذكرت الكثير، تذكرت مركز تحفيظ القرآن الذي انسحبت منه بفشل ذريع، ولو أني قاومت و لم أستسلم لضعف ذاكرتي فبذلت المزيد من الجهد لأعانني الله، ولربما كنت الآن من حفظة كتابه الكريم، وتذكرت جدي وجدتي رحمهما الله، وددت لو قضيت معهما مزيدًا من الوقت والتقطت لهما مقاطع الفيديو التي توفّر الصوت والحركة اللذين لا توفرهما الصور الفوتوغرافية التي ألمسها وأنا أتقطع شوقًا إلى سماع صوت أصحابها ورؤيتهم يتحرّكون.
 
الندم يأتي بعد أن نقوم بالفعل، بمعنى أننا قد لا نكون مُدركين لفداحة عواقبه أثناء القيام به، لأننا نأخذ الحياة وكأننا قد ضمناها في الجيب، رغم أنها قد تتبدّل أو تفلت من أيدينا في أي لحظة، يا تُرى لو كنت تعيش الآن في المستقبل، وتنظر إلى الوراء لترى وضعك اليوم، أي أمور كنت ستندم عليها مما تقوم به الآن؟
 
هل ستندم على الوقت الذي استنزفته على عملك أو أصدقائك في الوقت الذي كان فيه والداك أصحاء (أو أحياء) يتمنيان سويعات تقضيها معهما؟ هل ستندم على الشهادة الجامعية التي خسرتها لأنك اليوم مستسلم للنعاس وقت المحاضرات أو لصعوبة المواد وتوشك على ترك الدراسة؟ هل ستندم على تغذية سيئة اليوم ربما تتسبّب لك بأمراض مزمنة في المستقبل؟ هل ستندم على طفولة أبنائك التي مرّت سريعًا دون أن تقضي المزيد من الوقت في اللعب معهم واصطحابهم للأماكن الترفيهية؟
 
علام ستندم؟ وهل لديك الوقت الكافي لتدارك الأمر؟ الانشغال بتفادي ندم الغد على أخطاء اليوم هو برأيي أهم من الانشغال بندم اليوم على أخطاء الأمس.
 
جريدة الراية القطرية - الاثنين 26/11/2012 م
 

الأحد، 18 نوفمبر 2012

ألم تبن البيوت إلا على الحب؟

عاتب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً أراد أن يطلق زوجته لأنه لا يحبها فقال له "ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟"، على الجانب الآخر فإن الكثيرين يرون أن الحب..تلك المشاعر المرتبطة بكيمياء الجسم.. تلك الأحاسيس التي ينبض بها قلب متقلب وتسيرها روح ليست ملكاً لصاحبها: هو وحده المسؤول عن نجاح العلاقة من عدمه، رغم أن في الأمر مخاطرة كبيرة إذ ليس ثمة بوليصة تأمين على المشاعر.
 
إن عدم وجود الحب لا يعني الكره بالضرورة، الاحترام والثقة أمران قد يغنيان عن الحب بل يفوقانه أهمية وربما دخلا ضده في معركة يفوزان فيها بجدارة فتفشل العلاقة التي لم ينجحها الحب، ثم إن نوع الحب نفسه قد يكون سبباً في إفشال العلاقة، فليس كل حب جميلاً، هناك أنواع مشوهة من الحب تدفع بصاحبها إلى الشقاء وقصور التفكير، فكم من امرأة عشقت زوجها حتى وصلت لدرجة الغيرة الهوجاء والشك والحساسية الشديدة لأي موقف، فنفرته منها وجعلته يكره حبها له، وفي هذه الحالة عدم كفاية الحب ليست سبب إفشال العلاقة، وإنما نوع الحب هو مازعزع أركان ذلك البيت، والأمر ذاته ينطبق على الأزواج ممن وصل حبه لزوجته لدرجة التملك والشك فحرمها من كل ماسواه حتى كرهت الزواج وفقدت طعم السعادة.
 
وددت لو أن الحب هو تلك العصا السحرية التي تحل كل المشاكل، ولكن الواقع أمامي يقول إن القيم المثالية كالحب والطيبة والوضوح ليست ما ينجح العلاقة، وإنما الصفات العملية كالذكاء والحكمة والصبر والاستقلال العاطفي وغير ذلك من صفات السعداء الناجحين في علاقاتهم، تلك الصفات التي إن تمتع بها الشخص فإنه سيستطيع معالجة كل طارئ بتجرد من أحكام القلب التي كثيراً ما تكون مشوشة وغير حيادية.
 
يقال إن عمر الحب العنيف قصير، مما يؤكد على أن الحب -مهما غرتك قوته- ليس غير كاف فحسب؛ وإنما زواله وارد جداً ، المشاعر القوية الهائجة أكبر من أن تستمر، فالحب المجنون مثله مثل الكره المجنون، أكثر شدة من أن يستمر، لا تحتمله أرواحنا، وهو أولى من غيره بالفتور والاضمحلال، فلا يغرنك الحب واجعل لك في كل أمورك خط رجعة، لا تضحّ من أجل الحب بخطوط الرجعة التي أراها صمّامات أمان يصعب تعويضها كالشهادة أو الوظيفة أو علاقتك بأهلك وغير ذلك من الأمور التي تعد مضمونة أكثر من الحب ذاته، رغم أن لا شيء في هذه الحياة مضمون بنسبة 100%.
 
أوردت الكاتبة الأمريكية شون سولفو ضمن سيناريو فيلم (ماجدولين الكابتن كوروللي) المبني على الرواية الإنجليزية بذات العنوان لقصة حب تدور أحداثها وقت الحرب العالمية الثانية؛ بأنك عندما تقع في الحب، فإنه جنون مؤقت، يهجم كزلزال، وبعد ذلك يهدأ، وعليك بعد أن يهدأ أن تتخذ القرار، إما أن تجتهد في معرفة ما إذا كانت جذوركما قد أصبحت متصلة ببعضها لدرجة أنه من المستبعد أن تفترقا في يوم ما، وذلك أن هذا هو الحب.. الحب ليس حالة تسارع الأنفاس، إنه ليس تلك الإثارة، ولا تلك الرغبة الشديدة في لقاء ذلك الشخص في كل ثانية من اليوم، تلك الأمور ليست الحب وإنما هي حالة "الوقوع" في الحب ؛ الأمر الذي يستطيع أي منا إقناع نفسه بالشعور به، الحب نفسه هو بقايا تلك الحالة بعد أن تخمد نار الوقوع في الحب، لا يبدو الأمر مثيراً لتلك الدرجة، أليس كذلك؟ ولكنه كذلك.
 
هي دعوة لحقن العلاقات بجرعات من العقلانية التي لن تقلل من الرومانسية وإنما ستقلل من أضرار الاندفاع الأهوج خلف مشاعر قد تكون مؤقتة.
 
جريدة الراية القطرية -  الاثنين 19/11/2012 م

الأحد، 4 نوفمبر 2012

الغرق في الروتين

وضع رأسه على الوسادة وبدأ يسترجع ما مر به في يومه، فوجده مثل أمسه، ثم فكّر في غده، فغلب على ظنه أنه مثل يومه وأمسه، الأحداث مكررة ولا جديد، لا إثارة تذكر، لا مشاعر قوية، يتحرك كروبوت، لا تعابير في ملامحه، يذهب إلى العمل ليجد الوضع على حاله، تحية الصباح لديه أن يهمس بحرف سين طويل يرد عليه الآخرون بسين أخرى، يدخل إلى مكتبه وينتظر مرور الوقت ليعود للمنزل ويستكمل سلسلة التصرفات الروتينية.
 
لفت انتباهي مقطع من الفيلم الأمريكي sleepless in Seattle يمثل فيه توم هانكس دور رجل مكتئب ترمّل حديثاً ويحاول أن يخدّر بالروتين مشاعر الألم لفقدان زوجته فيقول: "سأنهض من سريري كل صباح لأتنفس شهيقاً وزفيراً طوال اليوم، ثم بعد فترة لن أضطر لتذكير نفسي بالنهوض من السرير كل صباح لأتنفس شهيقاً وزفيراً، ثم بعد فترة لن أجد نفسي أفكّر كيف أنني كنت أعيش حياة مثالية ورائعة في السابق"، فكما أننا نتنفس بشكل لاإرادي، فكذلك الأحداث المكررة الأخرى في حياتنا تصبح لاإرادية مع مرور الوقت كوظائف الجسم الحيوية، وما إن يدخل التصرّف في حيز الروتين نفقد القدرة الحقيقية على الاستمتاع به وتقديره، ثم بعد مدة ربما تطغى الرتابة على أنفسنا فنعجز عن الاستمتاع بالحياة وتقديرها لأننا أصبحنا حبيسي أنماط محدودة من التصرفات.
 
أن تمل من الروتين أخطر من أن تعلق فيه فلا تكاد تتعرف على حياتك دونه، الروتين لدى البعض هو الحصن الذي يجعل الأمور تبدو ظاهرياً على درجة عالية من التنظيم والاستقرار، بينما قد يكون الشخص في واقع الأمر هارباً من مواجهة واقع مؤلم و سجيناً لتصرفاته اليومية المكررة ومهدداً بالاكتئاب في أي لحظة، الحياة بلا مشاكل ليست سعيدة بالضرورة، قد تكون حياة لا حياة فيها، لاجديد فيها، لا إبداع فيها، لاإنجاز فيها.
 
المحافظة على مواعيد النوم والاستيقاظ وتناول الوجبات أمر إيجابي، ولكننا نحتاج قليلاً من التغيير في تفاصيل تلك الأحداث،كما في ديننا عبادات دائمة لا ينبغي التفريط فيها ولا يمكن تصنيفها ضمن الأمور الروتينية ؛ إلا أن الروتين يزحف إلى كل شيء دون أن نشعر، ففي الصلاة مثلاً قد نعتاد قراءة سور معينة بشكل آلي لدرجة أن لا نعي حرفاً مما قرأنا مهما حسن ترتيلنا، فما الحل؟
 
لاتستسلم للروتين، امنح نفسك قليلاً من الوقت لدراسة ماتمر به بجدية، فأنت أدرى بحقيقة وضعك، وأنت الوحيد القادر على انتشال ذاتك من متشابه الأيام، حتى لو لجأت إلى مختص أو طلبت نصيحة صديق؛ فإن قرار الاستعانة بالآخرين كان مصدره ذاتك، نحتاج أحياناً أن نرغم أنفسنا على فعل مافيه خير لنا وإن لم نمتلك مايكفي من الرغبة أو الطاقة، فصوت الحكمة موجود وإن طغا عليه صوت الخمول أو الحزن، وبقليل من الإنصات ستتمكن من الاستماع لصوتك الداخلي الجميل الذي يخبرك بما عليك فعله حقاً، قد يذكّرك بهواية هجرتها، أو ربما اقترح عليك أن تسافر مكان ما، ربما يدفعك إلى تجربة أمور جديدة لتختار منها مايناسبك فيما بعد، لعل الوقت قد آن لتغيير وظيفتك، وربما عليك التفكير في توديع العزوبية مثلاً.
 
جريدة الراية - الاثنين 5/11/2012 م

الاثنين، 22 أكتوبر 2012

بين ضحكات الأمس ودموع اليوم

يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وَلاَ تَجْزَعْ فإِنْ أَعْسَرْتَ يوماً
             فقد أيسرت في الزمن الطويل
في البيت أعلاه إشارة إلى أن مصائب الحاضر لا تعني أننا لم نعش لحظات رائعة في السابق، فدموع اليوم لا تمحو ضحكات الأمس، ورصيد المشاعر الجميلة لا ينضب بل نستخرجه من داخلنا كلما عصفت بنا الحياة، برأيي لا توجد حياة سعيدة ولكن توجد حياة بها لحظات سعيدة مررنا بها ونسترجعها كلما افتقدناها.
وهذا نبي الله أيوب عليه السلام بعد أن عاش سبعين عاماً في صحة ومال وأبناء ومكانة اجتماعية عالية، ابتلي بالمرض الشديد وفقد كل أبنائه وابتعد عنه الجميع إلا زوجته، فلما طال عليه المرض قالت له: يا أيوب، لو دعوت ربك لفرج عنك، فقال لها عليه السلام: لقد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهل كثير أن أصبر سبعين سنة ؟!.
إن من سوء الأدب مع الله أن نجزع إن حَرمَنا من أمر كان قد مَتعنا به زمناً قبل ذلك، نبي الله موسى عليه السلام خرج من بلده شريداً حيث ائتمر القوم ليقتلوه، ثم بعد أن أبت المروءة إلا أن يسقي للفتاتين اللتين أرادتا من الماء الذي اجتمع عليه الرجال، وبعد أن انهكه التعب من ذلك المجهود، لجأ للراحة في الظل، ليجد نفسه غريباً في بلد لا يعرف فيه إلا الله، طريداً بعد أن كان ذا مكانة ومال، لا يملك من الدنيا إلا ما جادت به الدنيا عليه كهذا الظل في يوم شديد الحرارة.
وعلى تلك الحال ناجى نبي الله موسى عليه السلام الجبار بدعوة يتجلى فيها أدب العبد مع خالقه، جملة جعلها الله سبباً لتعود له الفتاتان من أبيهما فتخبرانه أن الأب يريد أن يكافئه على صنيعه، ثم انتهى به المطاف أن تزوج إحداهما وحصل على عمل مع ذلك الرجل الصالح، أتاه ذلك الخير بعد أن دعا بتلك الدعوة العظيمة:"رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" فكأنه يقول يا رب إنك قد منحتني في الماضي أموراً أشتاق لها الآن، لم ينس ما مر به من مريح الأيام، لم ينكر فضل الله عليه.
أما ما ذكرني ببيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقصتي أيوب وموسى عليهما السلام، فهو تدبري في كلمات القصيدة الشهيرة "المعاناة" لقائلها الأمير الشاعر خالد الفيصل وبالأخص البيتان:
ولاني بندمان على كل ما فات
                 أخذت من حلو الزمان ورديّه
هذي حياتي عشتها كيف ماجات
                    آخذ من أيامي وأرد العطية
ورغم أن القصيدة مغناة قد ينشغل سامعها بألحانها عن معانيها كحال الكثيرين، إلا أن في التفكير في معانيها كنوزاً من الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنى وجدها كان أولى الناس بها.
جريدة الراية - الإثنين 22/10/2012

الأحد، 14 أكتوبر 2012

لا تؤجل ألم اليوم إلى الغد

إن تأجيل ألم اليوم إلى الغد يجعل الآلام تتكالب علينا من الداخل لتتسرّب بعد أن يطفح الكيل إلى الخارج في صور اضطرابات نفسيّة كان من الممكن تفاديها، ورغم أنها أتت تدريجيًّا إلاّ أنها تُفاجئ مَنْ حولنا وربّما فُوجئنا نحن بها كصدمة ظهر البعير بالقشّة رغم إدراك حقيقة تحميله ما لا يطيق.

 

كلّما تهرّب الإنسان من مواجهة مشاكله حفرت تلك المشاكل وجودها حفرًا أعمق في روحه، قد يظلّ أثرها وإن انتهت لأنّها لم تُعالج في السابق، ويُمكن قياس الأمر ببعد آخرعلى الحساب الأخروي لمن لم يتب في الدنيا وإن توقف عن ذنبه، كمن ترك التدخين لأن صحّته لم تعد تسمح له بذلك لا لحرمة الأمر، يظنّ بعدها أن أمر التدخين قد انتهى ثم يُفاجأ به في صحيفته فيُحاسب عليه لأنه لم يتب وإن توقف، وكذلك مشاكلنا الدنيويّة لا تنتهي بانتهاء مددها الزمنيّة إن لم نُقرّر مواجهتها على الأقل بالاعتراف بها كخطوة أولى.

 

ومن نواتج الآلام المُهملة الاكتئاب فهو لا يدخل بالضرورة من الباب، قد يتسلل من أسفله، وربّما دخل عبر فتحات التهوية كحبيبات غبار بريئة لا تلبث أن تصير ماردًا مُهابًا، الحزن التدريجي أشدّ على النفس مما أتى بين عشيّة وضحاها، فالأمور العارضة التي لم يتم التعامل معها بالشكل المطلوب يُحكم عليها بالتأبيد في داخل الإنسان فتظلّ حبيسة الأضلع وتستقبل باستمرار ضيوفًا من الهموم المستجدّة فتتعارف الأوجاع فيما بينها وتتكاتف مكوّنة جيشًا في الصدر يرفض الاستكانة والخضوع، وربّما رفض الإنسان الاعتراف بفداحة ذلك الضيق أو علاجه، يُذكّرني بهذا الحزن وصف أدوم أنواع الحب من كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي في قوله: ".. وهذا الذي يُوشك أن يدوم ويثبت ولا يحيك فيه مر الليالي فما دخل عسيرًا لم يخرج يسيرًا".

 

الحزن بئر لا قرار لها، لا سيّارة حوله ولا وارد يُدلي دلوه، إن لم تصعد بنفسك فستستمرّ بالانحدار، وكلّما تأخّرت في الصعود تأخّرت في الوصول، السرّ أن تُرغم نفسك على التخلّص مما أنت فيه بأي شكل وإن لم تجد في نفسك الرغبة أو الطاقة لبذل المجهود اللازم، فقط استجب لفطرة المقاومة في داخلك وإن بدا الأمر آليًا ومصطنعًا، استيقظ كل صباح ومارس حياتك بشكل طبيعي حتى لو اضطررت إلى التدرّب أمام المرآة لرسم ابتسامة صغيرة، ارسم الابتسامة على وجوه الآخرين لعلّ بعضًا من توهّجها ينعكس على روحك، قُمْ بكل شيء وأي شيء، افعل ما يفعله السعداء، أو على الأقل حاول، تذكّر أنك تُحاول من أجل شخص ليس له سواك ومن الظلم أن تكون أنت والظروف عليه، شخص يستحقّ المحاولة، أنت.

 

*عنوان المقال من تغريدة للشاعر الفاضل سعد علوش

 

جريدة الراية - الإثنين /10/2012 م

http://raya.com/writers/pages/55ff2c7e-db08-4292-b9af-7be9cfb032aa

 

الأحد، 7 أكتوبر 2012

كي لاتخذلك الذاكرة

 
 
 
 
حين تخذلك الذاكرة.. ترتفع قيمة كل صورة فوتوغرافيّة التُقطت لك يومًا، لتلمسها بيدك وتتصفّح معالمها بعينيك لترى ما كان قبل أن يتغيّر وتتغيّر، لا تستصغر ما يُمكن أن تتعلّمه من شخصك القديم
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تزداد أهميّة ذلك الصديق القديم، الذي يتذكّر أمورًا قد نسيتها، يُخبرك كيف كنت، لتُقارن بين نفسك التي عرفها ونفسك اليوم.
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تحتاج رشّة واحدة من عطر قديم، أو ربّما نفحة من رائحة حنّاء أو حتى حطب محترق، ليعود بك إلى تفاصيل زمان مضى كنت فيه وساهم في تشكيل شخصيّتك اليوم، رغم أنك نسيته.
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تنتشلك من خذلانها أغانٍ أو أهازيج بصوت مغنٍّ ما، أو ربّما بصوت أمٍّ تُهدهدك صغيرًا كي تنام، الصوت وحده يعود بك إلى دفء ذلك المكان وخصوصيّته.
 
- حين تخذلك الذاكرة.. تختنق العبرات مع ابتلاع لقمة لطبق سبق أن أكلت منه في فترة زمنيّة ماضية، وربّما كان هناك شخص يُشاركك تلك الوجبة، تعود بك حاسّة التذوّق إلى ذلك الزمن، وذلك الشخص.
 
حين تخذلك الذاكرة.. سيصعب عليك التعرّف على نفسك التي قد تكون أضعت بعض ملامحها في زحمة الحياة الحديثة؛ التي لا تعترف بالماضي الثمين.
 
حتى ذكرياتنا المُؤلمة نحتاج أن نسترجعها قليلاً، الألم الذي تخطّيناه دافع كبير لنستكمل درب الحياة ونحن أقوى وأكثر حكمة، من عانى من قسوة أبيه يستطيع أن يُحوّل ذلك الحرمان إلى طاقة حنان قصوى يمنحها لأبنائه ليكون هو بالنسبة لهم الأب الذي كان يتمنّى أن يحصل عليه يومًا.
 
وكي لا تخذلك الذاكرة مجدّدًا، إبدأ ببناء واقع رائع تتذكّره ويتذكّره أبناؤك فيما بعد، لا تجعل الصور حبيسة الأجهزة التي تتغيّر وتتعطّل، اطبعها لتُصبح ورقيّة تلمسها الأيدي وتُتوّجها البراويز وتحتضنها الجدران، التقط لهم صورًا عفويّة فحياتهم اليوميّة هي ما يودّون تذكّره حقًّا بعد ذلك.
 
احتفل بشقاوة الطفولة ولا تتذمّر من نعمة وجودها، لا تُصوّرهم مقيّدين بملابس الماركات وإنما صوّرهم بملابس اللعب المتسخة بوحل الحديقة قبل أن تتسخ النفوس بوحل الدنيا، لا تُصوّرهم مبتسمين للكاميرا وإنما صوّرهم مبتسمين لبعضهم قبل أن يدخل الشيطان بينهم كبارًا فيُنسيهم كيف كانوا متلاحمين صغارًا، احتفظ بأشيائهم القديمة وامنحهم الحبّ الذي يُترجمه تتويجك لكل معالم إنجازاتهم الصغيرة.
 
إبدأ ببناء تقاليد خاصّة بك وبمن حولك وإن كان الأمر ببساطة وجبة طعام معيّنة أسبوعيّة بعد كل صلاة جمعة مثلاً، الأفكار كثيرة لبناء قاعدة بيانات ضخمة من الذكريات، أنا أرى أن بإمكاننا أن نتعمّد صنع ذكرياتهم قبل أن يُصبح لكل منهم بيته وحياته مما قد يُنسيهم ماضيًا جميلاً يدفعهم لبناء مستقبل أجمل لمن حولهم.
 
جريدة الراية - الإثنين 8/10/2012 م

الأحد، 30 سبتمبر 2012

أمثال لا أؤمن بها

رغم اقتناعي أن صوت التجربة يعلو على صوت العلم، إلا أني لا أتفق مع بعض ما ورثناه من تجارب البشريّة في بعض المقولات التي قد تكون مضللة، ومنها على سبيل المثال:
 
- الظفر لا يطلع من اللحم: ويُقصد بهذه المقولة أن عرى القرابة ثابتة أبدًا، أمّا من الناحية الحرفيّة فالظفر قد ينفصل عن اللحم لأسباب مختلفة كمرض يُصيبه أو حادث ما، وأمّا من الناحية الرمزيّة فكم من صديق ارتبط بصديقه رباطًا أقوى من رباط الدم، وكم من إخوة افترقوا لأسباب دنيويّة مهينة، بل إن القرآن الكريم بيّن في قصة نوح عليه السلام أن ابنه ليس من أهله المبشّرين بالنجاة حيث فرّق الكفر بينهما فقال ربنا سبحانه في سورة هود - آية 46: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ..).
 
- الرجل لا يعيبه إلا جيبه: في هذه المقولة اعتداء صارخ على الرجولة الحقّة باختزال ما يعيبها في حالة الرجل المادّية ودحض كل ماعدا ذلك من عيوب حقيقيّة في أخلاق الشخص، وفي هذا السياق أُشير إلى أن الاستثمار الحقيقي إنما هو في الإنسان الذي قد يستطيع فيما بعد اكتساب المال بينما لن تستطيع كل أموال العالم أن تمنح شخصًا ما إنسانية لا يتمتع بها من الأساس.
 
- يد واحدة لا تُصفّق: تُقلل هذه المقولة من الفعالية الفرديّة في تحقيق التغيير وتُلمّح إلى أن الإنسان ما لم يحظ بدعم ومساعدة فلن يستطيع الإنجاز، وهذا غير صحيح فكم من البيوت بُنيت على شخص واحد بينما غرق شريك الحياة الآخر في عالمه المنفصل عن الواقع، سمعت الكثير عن أمهات نجحن في تعويد أبنائهن على صلاة الجماعة وإيصالهم للمسجد يوميًّا في الوقت الذي يغطّ فيه الأب في نوم أو سكر عميقين، نعم قد لا تستطيع اليد الواحدة التصفيق حرفيًّا؛ ولكنها تستطيع التطبيل بصوت يفوق دويّه عشرات المُصفّقين.
 
- لا يُوجد دخان من غير نار: تفترض هذه المقولة وجود أساس من الصحة لكل الافتراءات التي يُصدرها الناس في حق بعضهم بعضًا، وعليه فإنها تُساهم في تشويه سمعة الكثيرين بشكل غير مباشر؛ فهي تدعو إلى تصديق ما يُقال في حق الأبرياء مما يدعو لنشر الأكاذيب بدل الترفّع عنها، الدخان حرفيًّا قد يتكوّن بلا نار لتفاعلات كيميائيّة وغيرها، وكذلك الإشاعات قد تكون مفبركة بنسبة تتجاوز الـ 100% فالعقل البشري لا يحتاج الحقائق لينسج الدسائس وإنما لديه الخيال الكافي لاختلاق الأكاذيب من الصفر.
 
- الطريق إلى قلب الرجل معدته: هذا القول قد تكون به نسبة بسيطة من الصحّة ولكنه أغفل الدور الحيوي للروحانيات واختزل الطريق إلى قلب الرجل بشهوة الطعام وهي نزعة بدائية وسطحيّة للغاية، وكأن الإنسان يعيش ليأكل ولا يحتاج غير ذلك من الدعم المعنوي والتواصل الروحي الذي لا علاقة تُذكر بينه وبين لفائف السمبوسة.
 
ختامًا، على الإنسان أن يحتكم إلى فهمه الخاص في كل ما يتلقاه من "بديهيات"، فعقله قادر على غربلة نواتج التجارب الإنسانية بل والإتيان بمثلها وبما هو خير منها ليُورثه للقادم من الأجيال.
 
 
حديث الإثنين - جريدة الراية  1/10/2012 م

الأحد، 24 يونيو 2012

حاول مرة أخرى

نشرت جامعة يوتاه الأمريكية دراسة حديثة (2012) تكشف أن الإنسان يمتلك من المعلومات وخبرات الحياة أكثر بكثير مما يظن، الإشكالية أنه لايطبق الأمر لأنه لايعي حقيقة امتلاكه له أصلاً، آمن بقدراتك وتجنب أن تقنع نفسك باستحقاقك للفشل، اعلم أن الحل بين جوانحك وأنك الوحيد القادر على تحقيقه باستمرار المحاولات.

إن مر بك في يومك فشل ما أو فلنسمه تحدٍ، فستحدثك نفسك قبل النوم إما بالاستسلام والتنازل عن الهدف أو بالشجاعة المتمثلة في عزمك على مواجهة ذلك التحدي مجدداً في اليوم التالي، الاستسلام هو الخيار السهل الذي قد يسحب صاحبه إلى بؤرة الإحباط فيما بعد، أنا لست ضد الاستسلام بالكلية فالحياة ستكون مرهقة جداً لو قاتلنا لصغير الأمور وكبيرها، لا بأس من أن يشتري الإنسان راحته إن كان الأمر لايستحق السعي المستميت، ولكن التعود على نفض اليد من أي مهمة نفشل فيها يصعب علينا المقاومة فيما بعد، إن أصبح الاستسلام طبعاً تعتاده النفس فستتأثر به حياة الإنسان بمختلف أبعادها، الحياة الكريمة تستحق أن نقاوم عقباتها بين حين وآخر كي لاتنطفئ جذوة الروح.

إياك أن تسمم وسادتك آخر الليل بأفكار تشكك في قدراتك، إن نمت حزيناً فلن تصحو سعيداً مهما بدت أصوات العصافيرمغرية بالفرح، واعلم أن الوسادة ليست اسفنجة تمتص كل هذه السلبية، وإنما هي مرآة تعكس ماتبثه لها وتحفره كل ليلة في داخلك، وبعد أن تشرق شمس الصباح سيكون ذلك البوح جاثماً على صدرك تحمله معك ويراه الآخرون في عينيك دون أن تعلم أو يعلموا، رآه ذلك المسؤول الذي أجرى لك مقابلة الوظيفة ولم يتصل بعد ذلك، رآه صديقك الذي ضحك بعد أن أخبرته أنك قد تركت التدخين، رآه مديرك وهو يرفض طلبك الذي قدمته على استحياء، كيف تريد منهم أن يؤمنوا بأهدافك وهم يرون عينيك تكفران بها؟.

يقال أن صوت الشجاعة ليس عاليا دائماً، وأنها قد تأتي بصورة مسالمة جداً، قد لا يكون للشجاعة صخب الزئير والزمجرة وإنما هي أحياناً بوداعة ذلك الصوت المحب الذي يمسح على رأسك مع نهاية اليوم ويهمس في أذنيك قائلاً : "لابأس..غداً سنحاول مرة أخرى".

- الشجاعة هي الصوت الهامس بـ: غداً سألجأ لمختص في الإقلاع عن التدخين.

- الشجاعة هي الصوت الهامس بـ: غداً سأطلب من أمي وأخواتي أن يبحثن مجدداً عن عروس تقبل الارتباط بي مع معرفة ظروفي.
- الشجاعة هي الصوت الهامس بـ: غداً سأستمر في الذهاب لمعهد اللغة الانجليزية حتى إن لم أستوعب الكثير، وأنا مصر على فك رموزها مهما كلفني الأمر.

-الشجاعة هي الصوت الهامس بـ: غداً سأحاول مجدداً سداد ديوني وسأسأل أصحاب الخبرة عن طريقة لذلك.

-الشجاعة هي الصوت الهامس بـ: غداً سأستكمل البحث عن وظيفة أخرى ترضي طموحي وتعالجني من الإحباط.


نحتاج أحياناً أن نلزم أنفسنا بمحاولات لانضمن مدى فاعليتها وكأننا نسير في طريق لا نعرف نهايته ولكننا نعلم أننا نريد الهدف منه بكل قوة، لأن إحدى تلك المحاولات المتعددة ستنجح في نهاية المطاف، كما أن شرف المحاولة لوحده هو وقود سير تلك العملية الإنسانية المذهلة، فأن تحاول وتفشل خير من أن تمضي بقية عمرك متسائلاً فيما لو كنت ستنجح لو حاولت أكثر، يكفي المحاولات فائدة أنها تنأى بالإنسان من وجع التعامل مع ذلك الندم المرير في آخر العمر بعد أن تضعف القوى ولا يمتلك القلب الطاقة الكافية للتحسر على مالم يتحقق لمجرد أننا تنازلنا عنه مبكراً.

جريدة الراية - الإثنين25/6/2012 م

- سيتوقف العمود بسبب موسم الإجازات ويتجدد الموعد مع أحاديث الإثنين أول أكتوبر إن شاء الله وكل عام وأنتم بخير.

الأحد، 17 يونيو 2012

كلام الناس

هل وجدت نفسك يومًا متنازلاً عن أمر تحبه إرضاءً للمجتمع؟ هل تخليت عن هواية كانت ستسعدك أو تخصص كان سيمتعك أو وظيفة كانت سترضيك أو حتى زوجة كنت تتمناها فقط لأن المجتمع لا يتقبل ذلك؟

تضعنا الحياة أحيانًا على مفترق طرق بين سعادتنا وبين رأي الناس، الشجاع من يقدم مصلحته على كلام الآخرين، الشجاع من ضرب معايير المجتمع عرض الحائط وفضّل استبدال الفيلا الفخمة بشقة تؤويه كي يسدّد ديونه، فالمجتمع لن يتألم لكونه مديونًا ولكن سيتكلم لكونه لم يعد من أصحاب الفلل، الشجاع من يخطب لابنه امرأة أحبها الابن وإن كان يطمح لنسب آخر، اختار أن يكون أبًا مُحبًا على أن يتجمل أمام المجتمع بأنسباء مرموقي المكانة الاجتماعية في الوقت الذي يتهشم فيه قلب ابنه.

وعلى كل حال فمهما فعلنا لن يرضى عنا كل الناس، البعض يغرق نفسه في الديون كي يقيم زفافًا يرضي الجميع فتكون النتيجة أنهم ينتقدون إسرافه، البعض قد يرتدي أغلى الملابس كي يعجبهم فيتهمونه بالسطحية والغرور، يستحيل أن يرضى الجميع بل ربما تكون محاولة إرضائهم سببًا جديدًا لاستيائهم.

التنازلات التي نقدمها للمجتمع تكون أحيانًا من الفداحة بمكان بحيث تسحق أرواحنا سحقًا فلا نكاد نتعرف على أنفسنا، فهل يستحق الأمر كل هذا الذوبان كي نظل حبيسي القوالب التقليدية للصورة النمطية للفرد؟ ولماذا كل هذا السعي المستميت ليشبه بعضنا بعضًا؟ أنا أرى أن الناس الطبيعيين بمعايير المجتمع مملون لا إثارة تذكر في حياتهم، حتى إن رغبوا في كسر الروتين يسافرون إلى البلدان التي يسافر إليها الجميع فلا ابتكار ولا تغيير.

ما هو المجتمع حقًا وما حدوده الجغرافية؟ وهل عند انتقالنا إلى مجتمع آخر سنعيد تشكيل ذواتنا لمجرد أن قوالب المجتمع الجديد تختلف؟ بل ماذا سنفعل إن حرمنا أنفسنا من أمر ما ثم قام مجموعة من الشجعان في مجتمعنا بكسر القوالب وإعادة تشكيلها كما حدث مثلاً عند قيادة المرأة للسيارة؟ هل سنتمكن حينها من الضغط على زر سحري في داخلنا كي نتلاءم مع الصورة الجديدة أم أن الوقت سيكون قد تأخر كثيرًا؟

من هم الناس المذكورون في عبارة "كلام الناس"؟ هل لوجوههم ملامح؟ هل هم متفرغون كليًا للهجوم على كل من لا تنطبق عليه معايير الشخص الطبيعي؟ في رأيي ليسوا سوى فكرة زئبقية مبالغ في تقديرها، لن تؤرقهم أوضاعنا ولن يضرّهم ما نفعل، نحن نمثل لهم ما يمثلونه هم لنا، نحن "الناس" عندما نعكس معادلة "كلام الناس" وهم الطرف الآخر الخاضع للتقييم والتمحيص، فهل نحن مخيفون لهذه الدرجة؟

البعض ضحى بأمور لا يمكن تعويضها مراعاة "لكلام الناس"، أليس كلام الناس هو ما منع الكثير من كفار قريش من الإسلام ودخول الجنة فقط كي لا يُقال صبأوا؟ أليس كلام الناس من منع كثيرًا من الفتيات من ارتداء الحجاب في بعض المجتمعات حتى لا يوصفن بالتعقيد أو الإرهاب؟ أليس كلام الناس من منع الكثير من المرضى النفسيين من العلاج كي لا يُقال جنّوا مما سبب لهم تدهورًا في الأمراض التي ربما تحوّلت إلى عقلية فيما بعد؟ هل يستحق كلام الناس كل تلك التنازلات الفادحة؟ لو استبدلنا الخوف من كلام الناس بالخوف من الله لكنّا بخير.

وفي النهاية أنت لست مجبرًا على إرضاء الناس على حساب حياتك أنت، لا أحد يعلم بما يؤرقك ليلاً ولا أحد يهتم بذلك، لا أحد سيشاركك قبرك ولا أحد يستطيع ذلك، فاعلم أن لديك الخيار في كل شيء وأنك صاحب القرار شاؤوا أم أبوا.. أولئك الذين لا وجود محسوسًا لهم.. الكائنات الهلامية التي يخيل لنا أنها وراء النوافذ لا تحجبنا عنها إلا الستائر وفي يد كل منها منظار يرى به أعماق أرواحنا ويحرص ألا نكون كما نريد.

جريدة الراية - الإثنين18/6/2012 م


الأحد، 10 يونيو 2012

هنا نفقد الأمل


قال لي: "إن مديري في العمل يكرهني! رغم إتقاني الشديد لم أحصل على كتاب شكر واحد، ولا حتى كلمة تقدير". التقيته بعدها بسنة فقال لي: "يبدو أن مديري يخشى أن أسرق كرسيه، يُعاملني أسوأ معاملة، ويمنح المهمّات الرسميّة الخارجيّة لزملاء آخرين لا نكاد نراهم في مكاتبهم أصلاً"، ثم بعد عدّة أشهر صادفته فقال لي: "لقد رفعت بالأمس تقريرًا مميّزًا لمديري ضمن إطار العمل وسنرى إن كان سيُقدّر جهودي هذه المرّة!".


و تساءلت؛ إلى متى يظل الإنسان منّا متعلقًا بأمل يكذب به على نفسه، أليس من الشجاعة أحيانًا أن نتخلّى عن الأمل ونُواجه الواقع كما هو؟، ربّما من الأفضل لذلك الشخص لو يئس من تقدير المدير وقرّر بعدها إن كان يُريد البقاء في هذه الوظيفة أو تغييرها، التعلق بأمل حصول معجزة تتغيّر بها نظرة المدير جعله أسير هذه الفكرة لسنوات يسوق فيها نفسه سوقًا كل صباح إلى عمل لم يجلب له إلا الإحباط والقهر، كان سيمنحه اليأس من المدير بابًا لتحسين وضعه لكن الأمل أقفل ذلك الباب.


الأمل في غير محلّه يمنحك شعورًا كاذبًا بالأمان الذي يعميك عن رؤية حقائق الأمور، يقول الشاعر فيصل السديري " مع أنك رُحت.. ولا يُمكن ترد.. اتصدق استناك!"، هو ذلك الأمل الذي يُصوّر لك أن حبيب الأمس الذي تخلّى عنك سيترك كل ما بناه بعدك من مكانة اجتماعية مرموقة ويجثو عند بابك طالبًا العودة، هو ما يُخيّل لك أن زوجكِ البخيل سيُصبح كريمًا فجأة ويغدق عليكِ المجوهرات الثمينة، هو ما يجعلكَ ترفض حقيقة أنك أصلع وتُؤمن أن شعرك سيُعاود النمو، وكذلك على مستوى الشعوب المحتلة ينبغي علينا أحيانًا أن نفقد الأمل في فعالية الحلول الدبلوماسية كي نتمكّن من اللجوء لخيار القوّة فننال الحرية، حتى لو لم نصرّح بإيماننا بتلك الآمال الزائفة إلا أنها تُسيطر علينا والدليل أننا نحزن من عدم تحققها بعد.. لأننا ننتظرها سرًّا.


أليس من الأفضل لو أخبر الطبيب المريض المحتضر بحقيقة وضعه كي يستعدّ للرحيل ؟ أليس من الأفضل لمن أعياه العطش في الصحراء أن يُوفّر جهده فيتوقّف عن ملاحقة السراب؟ ألا يستخدم الكثير من الكفار الأمل كذريعة للاستمرار على الباطل؟ قال تعالى: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويُلههم الأمل فسوف يعلمون" سورة الحجر - آية 3.


جميل أن نتشبّث بشيء، ولكن سياسة التشبّث باللا شيء مضيعة للعمر، نستخدم الأمل الزائف أحيانًا كستار يحجب كسلنا أو عجزنا عن تسيير أمور حياتنا، الأمل ليس مُسكّنًا للألم ولكنه دواء إن كانت الوصفة منطقية، الأمل ليس نيّة محلها القلب فحسب وإنما هو قناعة تُترجمها الجوارح، هو إيمان عميق بشيء موجود أو يُمكن إيجاده، ليس افتراضًا اعتباطيًّا لا محلّ له من المنطق.


هناك أمور تستحق أن نفقد الأمل من حدوثها كعودة الصبا وثبات الحال، وكذلك هداية البشرية قاطبة، قال الله تعالى ضمن الآية 31 من سورة الرعد: "... أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا..)، الأمل الحق لا يتعارض مع الواقعية، أرى أن لبّ الأمل يدفعنا نحو النظر للواقع بمرونة تسمح بإعادة تشكيله ولا تُلغيه، أمّا الأمل الكاذب أو الزائد فمفسدة للطموح لأنه يتسبّب بالإحباط.


خلاصة القول: إن حديث هذا الاثنين وإن بدا في ظاهره دعوة لليأس؛ إلا أنه في الحقيقة دعوة لأمل من نوع آخر قبل أن يسرق الأمل الكاذب أعمارنا.


جريدة الراية - الإثنين11/6/2012 م

الأحد، 3 يونيو 2012

لن يُضَيعنا

مهما خفا عن الآخرين ما تعاني منه يظل الله وحده يعلم جيداً مابك، بل إنه معك يسمع و يرى، بل إنه أعلم بحالك منك، نحن لسنا وحدنا مهما خُيِّل لنا ذلك، يونس عليه السلام كان في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل و ظلمة البحر و ظلمة بطن الحوت.. لكنه لم يكن وحده، إبراهيم عليه السلام رُمي في حفرة مشتعلة بالنيران .. ولم يكن وحده، محمد صلى الله عليه وآله وسلم و أبو بكر الصديق رضي الله عنه كانا مختبئان في غار ضيق عند أرجل الكفار لدرجة أن لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما.. لكنهما لم يكونا وحدهما، أفلا يسمعك إن قلت يا الله و هو الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؟ أفلا يرى دمعة نزلت على خدك سراً وهو الذي يعلم قياس قطرات المطر حتى قيام الساعة؟


مهما ازدحم العالم بالمصائب إلا أنني لاأشك لحظة بأن ثمة مظلوم إلا وسيرضى بعد حين،إن لم يرض في الدنيا سيرضه الله في الآخرة، وماهي الدنيا حقاً كي نتحسر عليها وهي حلم يوقظنا منه الموت فلا نحزن على شيء فاتنا فيه إلا ساعة لم نذكراسم الله فيها، إن كنت تفرح في الدنيا القصيرة الزائلة بمن يرضيك بمنصب أو مال أو عقار وتكيل له المديح فكيف بمن يرضيه الكريم سبحانه ويعوضه في دار الخلود بشباب دائم في جنة حصباؤها اللؤلؤ له فيها قصور لبناتها الذهب والفضة و له فيها أنهار ليست كأنهار الدنيا؟ لقد بلغ به العدل سبحانه أن حتى الحيوانات يحييها يوم القيامة لتقتص من بعضها فتنطح الشاة التي لم يكن لها قرون في الدنيا أخرى كان لها قرون نطحتها بها ، ثم يكونوا ترابا بعد أن تحقق العدل التام، وهنا يتمنى الكافر لو أنه كان ترابا، لاظلم اليوم.


غمسة واحدة في الجنة تُنسي الشقي كل شقاء الدنيا لدرجة أن يحلف بعزة الله وجلاله أنه مارأى شقاءاً قط، أهل فلسطين الحبيبة لم يعانوا من جرائم الصهاينة ، الأم السورية لم تر شبيحة بشار ينحرون أبنائها أمام ناظريها ، وكأن قلوبهم لم تذق وجعاً من قبل ، وكأن الابتلاءات لم تحدث أصلاً إذ لم يعد للشقاء مكان في الذاكرة بعد غمسة واحدة في الجنة، راحة أبدية و نعيم مقيم.


على الجانب الآخر فإن للظالم عقاباً أخروياً لايكاد يقارن بعقابه الدنيوي، كل مايتمتع به في الدنيا ستمحيه غمسة واحدة في جهنم تجعله يجزم أن لم يمر عليه في الدنيا نعيم قط، سيُحرَم الطاغية حتى من الأنس بذكر أي شيء كان يفرحه من مال و عتاد ومطبلين ومؤيدين ، عدل تام يريح كل مظلوم، فلاتبتئس إن تعالت ضحكات المجرمين بل ابتسم بيقين المؤمن الواثق بوعد الله واعلم أن الظالم سيدفع ثمن كل ما جنته يداه، وهذا أمر مفروغ منه.


مانعايشه في حياتنا اليومية أو نشاهده عبر وسائل الإعلام من جرائم شنعاء يجب أن يقربنا من الله أكثر،إن كنت مظلوماً فاعلم أن الله هو العدل، إن كنت مكسوراً فاعلم أن الله هوالجبار، إن لم يستمع لشكواك أحد فالله هو السميع، اقترب من الله أكثر كي تطمئن على حالك وحال الأمة أكثر، فكما تعهّد الله سبحانه بحفظ كتابه القرآن فكذلك منحنا من البشارات مايجعلنا على ثقة بأن ثمة فرج قادم وإن طال البلاء وأن الغلبة للمؤمنين في آخر الأمر، وعليه فمن المفترض أن يعمل كلٌ حسب استطاعته لنصرة الحق الذي يؤمن به لاأن تسيطر علينا أجواء السلبية والاستسلام ليس لأن الأوضاع جيدة الآن بل لأن الجبار وعدنا بذلك وكفى.


كيف يشعر إنسان بالمسكنة وانعدام الحيلة وهو يعلم أن الله قد أحاط بكل شيء علما، يقول الكاتب الروسي ليو تولستوي " يرى الله الحقيقة.. لكنه ينتظر"..ولكل منا حقيقة يعلمها الله.. فلننتظر.. أليس الصبح بقريب؟



جريدة الراية - الإثنين4/6/2012 م


الأحد، 27 مايو 2012

عالم رائع ولا أحد سعيد

وصف الكوميدي الأمريكي لوي سي كيه العالم الذي نعيشه بجملة:" إنه عالم رائع ولكن لا أحد سعيد، فهو مهدر على أسوأ جيل مدلل من الحمقى"، ومن ضمن فقرته الكوميدية ضرب مثالاً على تجربة السفر، فالناس بعد عودتهم من السفر يخبرونك بقصص "مرعبة"، كأن تتأخر الطائرة عشرين دقيقة مثلاً أو أن المقاعد لا ترجع كثيرًا إلى الوراء، انشغالهم بالانزعاج من كل شيء أعماهم عن استيعاب حقيقة أنهم شاركوا في تجربة رائعة، فهم كانوا جالسين في مقاعد في السماء تمر بهم بين السحاب وتنقلهم إلى أماكن كان يستغرق الوصول إليها شهورًا طويلة وربما سنوات، والأمر ذاته ينطبق على الهواتف، ففي السابق كان المحظوظ من يوجد في منزله هاتف يتصل به دون أن يضطر للخروج، واليوم أصبحت الهواتف موجودة في جيوبنا حرفيًا، ورغم ذلك تجد البعض يزفر بقهر إن لم يلتقط هاتفه الإرسال للحظات أو إن تأخرت الرسالة في الوصول قليلاً، أليس من حق الهاتف (والكلام للوي سي كيه) أن تمهله ثوانيَ قليلةً يلتقط فيها أنفاسه ويرحل بها إلى الفضاء بسرعة الصوت كي تقوم باتصالك الذي قد لا يكون هامًا أصلاً؟ إن وجود هذه الأجهزة الرائعة في جيوبنا أمر مذهل وقليل منا من يقدِّر هذه النعمة العظيمة التي أتتنا دون مجهود يذكر إذ لم نشارك في اختراعها.


العالم اليوم يمر بمرحلة غريبة، أصبح كل شيء سهلاً ومتوفرًا بفضل الله ولكن الراضون قلة، لغة السخط هي المنتشرة بين الناس رغم كل ما يتمتعون به من تقنيات حديثة سهّلت عليهم الحياة كثيرًا، ورغم أن هذا الجيل تربى على أيدي أشخاص عاصروا مراحل من الشقاء وقحط العيش؛ إلا أن ذلك لم يغير الكثير من العقلية الاستهلاكية التي يتصف بها إنسان اليوم، لا أعرف كل أسباب ذلك ولكنني على يقين أن للإعلام دورًا كبيرًا في الأمر حيث أشغل الأجيال بتوافه الأمور وأنزلها منزلة الأولويات.

من المؤسف حقًا أن تكون الحياة رائعة لهذه الدرجة ونفشل في رؤية هذه النعم والاستمتاع بها وإنما نحصر تفكيرنا فيما اعتراها من قصور مهين ولا يكاد يبين، أشعر أحيانًا أننا لم نستوعب بعد مدى التطور التكنولوجي الذي يعيشه العالم اليوم، ضغطة زر واحدة عبر جوالك تدخلك إلى عالم الإنترنت العجيب لتبحث فيه عن أي شيء، لو تأخر الجوال قليلاً في تحميل الصفحات ربما أغلقته الزوجة بغضب وصرفت النظر عن الاطلاع على طبخة ما رغم أن جدتها كانت تطحن الحبوب وتقضي يومًا كاملاً ربما في تجهيز الطبخة ذاتها من الصفر في الوقت الذي كل ما يطلب فيه من ابنة اليوم معرفة الطريقة وإفهام الخادمة، لو أنها سألت أمها أو جدتها عن ماهية حياتهن في السابق لوجدت شقاءً بلا تذمر وما وجدت حالها اليوم تذمرًا بلا شقاء.

على الجانب الآخر فمن المقلق حقًا أن الكثير من الناس ليس لديهم أبسط مهارات البقاء، يشترون الجديد بدلاً من إصلاح القديم مهما كان الخلل بسيطًا، تتعطل مصالحهم بسبب عقبات بسيطة كان يمكن السيطرة عليها، اعتمادهم على التكنولوجيا أنساهم كيفية استخدام أيديهم وهذا من ألف باء الحياة.

بعض الأفراد لدى الغرب ممن انهارت حياتهم بعد الأزمة المالية اضطر إلى بيع كل ما يملكه من أدوات إلكترونية كالغسالة الكهربائية مثلاً وأصبحوا يغسلون ملابسهم بالطرق البدائية وينشرونها على حبال الغسيل بدل تجفيفها إلكترونيًا، الأفراد الذين لديهم نزعة البقاء هم من استطاعوا أن يخشوشنوا ويمروا بهذه المرحلة دون خسائر نفسية كبيرة، أما الآخرون فقد دخلوا في دوامة من الاستسلام والاكتئاب انتهت بكثير منهم إلى الانتحار.

الكثير من جيل اليوم ساخط لا يقدّر قيمة التطور التكنولوجي من جهة ولا يستطيع الاستغناء عن التقنيات الحديثة من جهة أخرى، لعل سبب دلع هذا الجيل هو نزعة داخلية إلى تحقيق الكمال، هو سعي إلى مثالية لا يمكن أن تتصف بها الدنيا أبدًا مهما بلغ العالم من التقدم، ولا بأس من ذلك، الكمال في الجنة، لا يعني ذلك أن الحياة من حولنا ليست رائعة، بل هي مذهلة، فلنستمتع بها كما هي، ولا ننسى ما مرّ به أجدادنا من تحديات أوصلتنا لما نحن فيه من حياة مريحة بفضل الله وحده.

جريدة الراية - الإثنين28/5/2012

الأحد، 20 مايو 2012

كن صريحاً.. مع نفسك

للكثير من الناس جانب مخبّأ من الواقع، هي الأمور التي لانستطيع أو لانريد مواجهتها، وربما لانكون قادرين على رؤيتها أصلاً رغم قربها الشديد منا، إنكار الواقع أو التهرب من مواجهته هي حالات قد يمر بها أي إنسان بدءاً من الأم التي لاتعترف بسوء خلق ابنتها وانتهاء بقادة الدول الذين أصمّوا آذانهم عن كل الأصوات الشعبية العالية التي ترفضهم.

في بعض المجتمعات قد يكون الرجال أكثرعرضة لحالة إنكار الواقع من النساء لأن المجتمع لايتساهل معهم في حالات الضعف بينما يعد من المقبول اجتماعياً للمرأة أن تمارس حقها في التعبير عن المعاناة، لا أستغرب من رجل يفتخر أمام أقرانه في المجلس بقوة شخصيته في حين حتى الخدم في بيته يشفقون عليه من تسلط زوجته لدرجة ربما تصل إلى رميه بالأشياء، وهناك من الرجال من يعيش حالة إنكار شديدة لوضعه المادي كخسارة فادحة يواجهها في الأسهم أو إغراق خطير في الديون، وربما يصل به الإمعان في إنكار الواقع إلى السعي إلى اقتناء سيارة جديدة، وربما يهرب من مواجهة مايمر به من ضائقة مادية بالسفر وصرف مبالغ طائلة وكأنه بذلك يثبت لنفسه أو لغيره أن حالته المادية ممتازة في الوقت الذي يكون فيه عرضة للسجن في أي لحظة.

تظل أمور الهارب من المواجهة معلقة ومؤجلة حتى إشعار آخر وبذلك فقد تزداد سوءاً مع مرور الوقت بسبب تجاهلها؛ ما يؤثر سلباً على ثقته بنفسه وقد يصل به الأمر إلى الإصابة بالقلق ومختلف الاضطرابات النفسية والجسدية، حتى أصحاب الإعاقات العقلية لدى الغرب يُشرح لهم وضعهم بشكل مبسط كي يتفهموا حقيقة اختلافهم عن الآخرين ولايعيشوا في حيرة.

إن مايجعلنا نتجنب مواجهة الحقيقة هو خوفنا من مواجهة أمر مجهول قد يقود إلى إحداث تغييرات في حياتنا، وبإنكارنا للواقع نثبت على وضع واحد لا نغيره، فالتغيير يتطلب جهداً لانريد القيام به ، رغم أن الحلول قد لاتتطلب جهداً كبيراً، وأحياناً تكون أبسط مما نتخيل، قد تكون في تغيير طريقة تفكيرنا فحسب.

الحقيقة تحررنا من الخوف منها، حينما يتحقق أسوأ مخاوفك فلن تخاف شيئاً وستتصرف على أساس معرفتك بالأمر لا على أساس خوفك وتهربك منه، ما إن تواجه الواقع لن تتمكن من العودة إلى ماكنت عليه من تخبط، ستبدأ في ملاحظة تصرفاتك التي كانت مبنية على جهلك بحقيقة الوضع ولن تتمكن من الاستمرار على ماكنت عليه من أنماط سلوكية غير صحية، وبذلك فبمجرد معرفة الحقيقة يكون التغيير الداخلي قد بدأ.

إن معرفة الحقيقة وإن لم تكن الحقيقة التي نريدها خير لنا من البقاء في الظلام، تخيل أنك الآن عرفت أخيراً سبب ضيقك من أمر ما.. سبب انزعاجك من شخص ما.. سبب تصرفك بعصبية في مواقف ما، حينها ستتمكن من فهم وضعك وستتحرر من كل قيود الجهل التي قيدت بها نفسك بتهربك من المواجهة، حينها ستتمكن من التنفس بعمق وتقبّل الواقع كما هو، ما يمنحك الفرصة للتصرف حياله بمنطق ورَوِيّة.

الوضوح لاشك يحقق لك راحة في الذهن تترتب عليها سعادة في القلب، ستتحكم أكثر في ردود أفعالك وترضى أكثر عن تصرفاتك، بل ربما بعد أن تتخلص من كل المشاعر السلبية ستضحك على نفسك كيف أنك كنت مكبلاً بكل تلك الشكوك والوساوس على أمر قد لايستحق كل ذلك الانزعاج، مواجهة الواقع لا تحسن حياتك وحدك فحسب؛ وإنما تحسّن حياة الأفراد من حولك كذلك وتجعلك أكثر شفافية في علاقاتك المختلفة مع أهلك وأصدقائك وفي محيط عملك.

إن كان الواقع الذي نهرب منه مشوشاً لدرجة لاتمكننا من رؤيته بشكل واضح فإن من الحكمة أن نلجأ لمن نثق برأيه سواء كان صديقاً أو شيخ دين أو استشارياً ليضع معنا النقاط على الحروف، لاتستهين بقدرة الآخرين على إحداث تغيير في حياتك ففي بعض الأحيان يكون أسلوب تفكير الإنسان هو ما أوصله لما هو فيه، و حين يمنحه الآخرون أعينهم ويرون بها وضعه من طرف محايد سيتمكن هو كذلك من رؤية الأمر بوضوح مهما كان سيئاً.

جريدة الراية - الإثنين21/5/2012
http://raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=645045&version=1&template_id=168&parent_id=167

الأحد، 13 مايو 2012

جراحهم لاتحتمل المزيد

لازلت أتذكر صديقتي التي مات والداها وهي صغيرة السن، كانت تتغيب عن المدرسة في يوم الأم هرباً من الطابور الصباحي ومايقدمه من مواد مؤثرة عن قيمة الأم، وأتذكر من كن يبكين من الصغيرات في طابور الصباح في ذلك اليوم ممن حرمن من أمهاتهن بالموت أو غيره، وأتساءل اليوم ألم تنتبه المدرسات إلى هذه النماذج الإنسانية الغضة التي تعد جزءاً من الكيان المدرسي والتي ماكان يجب صدمها بتلك المواد الفنية المكثفة في يوم واحد كل عام؟ وددت لو قام أحدهم باتخاذ قرار يمنع مثل هذه الاحتفالات مراعاة لمشاعر الأطفال الذين لم يفهموا الحياة بعد وربما لم يستوعبوا بعد حقيقة اختلافهم عن أقرانهم، يقول وليام شكسبير "إذا تألمت لألم إنسان فأنت نبيل، أما إذا شاركت في علاجه فأنت عظيم".


التعاطف فن يحتاج منّا أن نتوحد قليلاً مع عذابات الآخرين، أن نتخلى عن أعيننا و نرى ما حولنا بأعينهم قليلاً، ولكن البعض لايرى إلا نفسه حقاً، قالت لي إحداهن ممن لم يكتب لها الإنجاب وتقدم بها العمر إنها اتصلت بقريبة لها صغيرة في السن تبارك لها خبر الحمل الثاني (بعد حملها السابق بتوأم) فردت عليها تلك بضيق: "علام تباركين لي! لقد حزنت حقاً من هذا الخبر، وددت لو أنني لم أحمل بهذه السرعة بعد ولادتي السابقة حيث كانت لدي نية للذهاب للعيادة مرة أخرى الأسبوع القادم كي أنجب توأماً آخر بالتدخل الطبي! أما الآن فقد لا أنجب إلا طفلاً واحداً فقط" تقول هذا لامرأة تعلم بأن العمر قد تقدم بها بعد أن باءت كل محاولات الإنجاب لديها بالفشل.

يفتقد الكثيرون للحس الإنساني في حياتهم اليومية فيهمشون مشاعر الآخرين بدم بارد، كالمرأة الجميلة التي تتذمر من حبة صغيرة ظهرت في وجهها أمام أخرى لاحظَّ لها في الجمال، وكالرشيقة التي تنعت نفسها بالسمنة وتشير إلى انتفاخ بسيط في بطنها لايكاد يُرى أمام أخرى سمينة حقاً، وكالشاب الذي يتذمر من تأخر شحن سيارته الفارهة أمام شخص لايمتلك إلا سيارة متواضعة يشاركه فيها أخوه، وكالذي يتحدث بحماس عن تفاصيل رحلاته الممتعة حول العالم أمام آخر لم تسمح له الظروف برؤية أقرب البلدان.

يضرب لنا الإسلام العظيم أروع الأمثلة في أهمية مراعاة مشاعر الآخرين على اختلاف أوضاعهم، بل حتى في صلاة الجماعة لاينبغي على الإمام الإطالة مراعاة لمن خلفه، فعن عثمانَ بنِ أبي العاصِ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمَّ قومَكَ ، فمنْ أمَّ قومَه فليُخَفَّفْ؛ فإن فيهم الكبيرَ وإن فيهم المريضَ وإن فيهم الضعيفَ وإن فيهم ذا الحاجة ، وإذا صلى أحدُكم وحدَه فليُصَلِّ كيفَ شاءَ " (مسلم).

ضع نفسك في مكان الشخص الآخر، لاتهمش أحزانه ولا تدس على مشاعره، امنحه شرف الاعتراف بوضعه فهذا وحده كاف أحياناً، يقول الدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله: لاتتحدث عن أموالك أمام فقير، ولا عن صحتك أمام عليل، ولا عن قوتك أمام ضعيف، ولا عن سعادتك أمام تعيس، ولا عن حريتك أمام سجين، ولا عن أولادك أمام عقيم، ولاعن والدك أمام يتيم، فجراحهم لاتحتمل المزيد، زِنْ كلامك في كل أمور حياتك، واجعل مراعاة شعور الآخرين جزءاً من شخصيتك، حتى لايأتي يوم تجد نفسك فيه وحيداً مع جُرحك، فلا ترقص على جراح الآخرين، كي لايأتي يوم تجد فيه من يرقص على جرحك.

جريدة الراية - يوم الإثنين 14/5/2012

الاثنين، 7 مايو 2012

مصعد النجاح مُعَطّل

يقول السياسي الألماني هلموت شميت:"من يريد الوصول إلى هدف بعيد عليه أن يخطو خطوات صغيرة"، وظاهرياً رغم أن كلمة "صغيرة" التي وصفت الخطوات لاتبدو فعاّلة بجانب كلمة "بعيد" التي وصفت الهدف؛ إلا أن الواقع يثبت أن الأهداف البعيدة هي بالذات تتطلب خطوات صغيرة مستمرة، لاتستهين بقطرات الماء الرقيقة فبإمكانها حفر الصخر، بل وإن بعض الطواغيت يستخدمون هذه القطرات للتعذيب حيث تكاد تقود ساكني السجون الانفرادية إلى الجنون. 

بالخطوات الصغيرة المستمرة نحو الهدف قد يستطيع الشخص الذي يلهث بإعياء من مجرد صعود الدرج أن يكتسب لياقة مبهرة فينهي ماراثوناً يجري فيه لساعات متواصلة، بالخطوات الصغيرة المستمرة استطاع الكثير من الأفراد حفظ القرآن الكريم كاملاً، واستطاع آخرون استكمال مراحل تعليمهم الذي توقفوا عنه لسببٍ ما، ما أكثر من اكتسب الملايين بتلك الخطوات المستمرة، بل وبها يصل البسطاء إلى مقاعد رئاسة الدول العظمى، وعلى صعيد آخر فالواقع يشهد أن بالتصرفات الصغيرة اليومية قد تستطيع المرأة تطويع الرجل الذي تحب كيفما تحب إيجاباً أو سلباً، إن التغيير العميق لايأتي بين يوم و ليلة، هو نتاج محاولات صغيرة مستمرة بشكل منتظم، هي الخطوات الصغيرة البريئة ظاهرياً لكنها في منتهى القوة، حتى إبليس اللعين نفسه يستخدم هذه المنهجية، فهو لايجر الناس إلى درب الغواية مباشرة، وإنما يتدرّج ويتبّع أسلوب الخطوات الذي ينجح فيه بجدارة، قال تعالى ( يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبعُوا خُطوَاتِ الشَّيْطان..) الآية 21 - سورة النور.

أنت من يحدد الخطوات الصغيرة التي تناسب هدفك و وضعك و استطاعتك، مهما كانت الخطوة صغيرة فاستمرارها يمنحها فعالية قصوى، يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "على من يريد أن يتعلم الطيران أن يتعلم أولاً أن يقف و يمشي ويجري ويتسلق ويرقص"، أي خطوة ممكنة تقرّبك نحو هدفك قيد أنملة تستحق أن تخطوها، لا تضيّع الوقت في القلق بشأن الألف ميل القادمة مادمت قادراً على أن تخطو تلك الخطوة الأولى في طريق الألف ميل، وفي هذا السياق يقول مارتن لوثر كنج: "خذ الخطوة الأولى بإيمان، قد لاتتمكن من رؤية الدرج كاملاً، فقط خذ الخطوة الأولى".
 
 
إن الخطوات الصغيرة تتطلب من الإنسان إيماناً قوياً بنتائجها التي لاتُرى إلا بعد حين، ورغم أنها غير مُجهدة إلا أن الكثير يفشلون في المداومة عليها بسبب قصر النظر وقلة الصبر، نحن متى ماوضعنا الهدف أمام أعيننا وآمنّا به حقاً سنتمكّن من الاستمرارعلى هذه الخطوات، هي خطوة واحدة صغيرة تتلوها أخرى، وبعد ذلك ستبداً الأمور بالتحسن تدريجياً وسيتّضح آخر الدرب مع مرور الوقت، ستأتي الإنجازات الكبرى تدريجياً؛ لن تأتي في يوم وتاريخ محدد ولكن ستأتي بالتدريج، قد لا نلاحظها مباشرة، بل ربما يلاحظها من حولنا بشكل أوضح.

قليل دائم خير من كثير منقطع، وهناك حكمة صينية تقول: "أن تأخذ خطوات صغيرة عديدة نحو الاتجاه الصحيح أفضل من أن تقوم بقفزة عظيمة نحو الأمام وتتعثر بعدها إلى الوراء"، أرى أن أحد أكبر أخطائنا في حق طموحاتنا هو السعي نحو النجاح السريع، فالنجاح الذي يدوم هو ما اتجهنا نحوه بخطى ثابتة و طبخناه على نار هادئة في إطار زمني ممتد نسبياً، إن مايعوض بطء نتائج الخطوات الصغيرة هو أن هذه النتائج تكون أكثر ثباتاً وأطول عمراً من تلك التي أتت بسرعة وبلا تخطيط، كما أن الإنسان يشعر باستحقاقه لتلك النتائج ويسهل عليه تقديرها والمحافظة عليها أكثر من تلك التي أتت في وقت قصير فيهون عليه التفريط فيها، وحول ذلك يقول الأديب السعودي عبدالرحمن منيف "عليك أن تعد وجباتك على نار هادئة، فالنار الهادئة وحدها تنضح طعاماً لذيذاً".

- العنوان مقتبس من مقولة الكاتب الأمريكي جو جيرارد (الملقب بأعظم رجل مبيعات في التاريخ): "مصعد النجاح معطل، إن عليك أن تستخدم الدرج، خطوة واحدة في المرة الواحدة".

جريدة الراية - يوم الإثنين /5/2012 م