الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

أعرتك ناظري.. ففقأت عيني!


- لكل من ذاق مرارة نكران الجميل من قريب، لكل من جرب قهر الجحود، كان هذا المقال..

قيل قديمًا "لايسهر الليل إلا من به ألم .. لا تحرق النار إلا رجل واطيها" ، وبذلك فمن ستلامس كلماتي أرواحهم هم أولئك الذين بذلوا صادق المشاعر لأجل شخص استغل الفرصة الأولى لا ليخذلهم فحسب، وإنما ليسحق أرواحهم بالإساءة الصريحة والهوجاء، إن كنت منهم فلست وحدك، ليسوا قلة، هم الآباء الذين "حجر" عليهم أبناؤهم لأجل دراهم معدودة، هي الصديقة التي فوجئت بزواج زوجها من صديقة عمرها، هو الموظف الذي نسب زميله جهده له وصعد على أكتافه، هي ربة المنزل التي أحسنت للخادمة فاستحلت الأخيرة حرمة بيتها، هو الزوج الذي أغدق على زوجته الدلال و الأموال وما إن ضاقت به الأوضاع المالية أو الصحية حتى تنكرت لما كان منه وتذمرت من القيام على شؤونه، هي الزوجة التي ضحت بجهدها ومالها ليقف زوجها على قدميه ثم أدار لها ظهره ما إن نجح في حياته ليستمتع مع غيرها بالخير الذي جعلها الله سببًا فيه، هو الشيخ الجليل الذي نهل طالب العلم من بحره ليكيل له التهم والانتقادات اللاذعة على وسائل الإعلام فيما بعد، هو ذلك الذي تحدث الشاعر معن بن أوس بلسان حاله قائلاً:


فَيَا عَجَباً لمن رَبَّيْتُ طِفْلاً ... ألقَّمُهُ بأطْراَفِ الْبَنَانِ
أعلِّمهُ الرِّماَيَةَ كُلَّ يوَمٍ ... فَلَمَّا اشْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ الْقَوَافي ... فَلَمَّا قَال قَافِيَةً هَجَاني
أعلِّمهُ الْفُتُوَّةَ كُلَّ وَقْتٍ ... فَلَمَّا طَرَّ شارِبُهُ جَفَاني



لا تزال الطبيعة الإنسانية تذهلني بقدرتها على التلون و ارتكاب مختلف أنواع الشرور، ما أصدق المتنبي حين وصف ناكر المعروف باللؤم في قوله " إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا "،فالحقيقة العارية هي أن بعض الناس مهما فعلت لهم لن يبادلوك الإحسان، بل وربما لن يتمكنوا من التوقف عن بغضك لأسباب مختلفة لسنا بصدد رصدها هنا، كلما مررت بموقف مشابه يقفز إلى ذهني المخزون الثقافي الذي اكتسبته طوال عمري حول هذا الأمر، حكم وأمثال وأشعار تفرض نفسها بقوة فأسترجعها كأنني أسمعها لأول مرة ، أكتب كلماتها في محرك البحث جوجل وأخرج النصوص كاملة والمناسبات التي قيلت فيها، التجربة الإنسانية مذهلة، كلنا نمر بنفس الخبرات رغم اختلاف الأزمان.

شد انتباهي أن النصوص التي كتبها الأولون في نكران الجميل بها كم فظيع من الألم أجزم على إثره أنه آتٍ من تجربة الشاعر الذاتية، بها نزف أكاد أشتمه من وراء شاشة اللابتوب بعد أن وحدتنا التجربة الإنسانية القادمة بقوة من عصور أخرى، إن السبب في فداحة الصدمة ليس الفعل نفسه فحسب، وإنما الفطرة السليمة التي لم تجبل على هذا الجحود، بل إن النكران كان سببًا في دخول النار حيث إن ناكرات العشير هن من أهل النار كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

على الجانب الآخر، فإن ثمة خطأ قد يقع ويتمادى فيه ضحايا نكران الجميل، ألا وهو المن، قد تتعالى أصواتهم بالتحسر على ماكان منهم من معروف في الماضي؛ رغم أنهم كانوا يريدون به وجه الله، هي ردة فعل طبيعية بلاشك، ولكنني أنأى بصاحب المعروف عن النزول إلى مستوى ناكر المعروف، ربما نال تعاطف الآخرين ولكن الأمر لن يغير من الواقع شيئًا، حاول أن تسقطهم من حساباتك وركز إحسانك على من هم أولى بمحبتك، وتذكر الإرث الثقافي الثمين الذي تركه لنا الأولون في صورة مثل يقول"سو خير و قطه بحر" ، فلا شيءَ ضائعَ عنده سبحانه، استبدل الشكوى والمن بالصبر واحتساب الأجر، إن صدمتك بهم ليست نهاية القصة، سترسم النهاية يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم..

*العنوان من قصيدة للشاعر د.محمد عبدالمطلب جاد.




جريدة الراية القطرية   - الإثنين28/11/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=606782&version=1&template_id=168&parent_id=167

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

اللبن المسكوب أم الماء المسكوب؟



ندور أحياناً في دوائر مفرغة نظل فيها نبكي على (اللبن المسكوب)، يتوقف الزمن عند البعض مع خيبة أمل يرفض بعدها المفاوضة حول وضعه، فيترك الجمل بما حمل عوضاً عن إصلاح ما يمكن إصلاحه، يخسر بذلك أموراً كثيرة أبرزها إيمانه الذي يضعف جراء استسلامه للإحباط ولومه للآخرين والتحجج بأعذار تلو أعذار، يتعذر تارة بالظروف، وتارة بالسن، وتارة بسلطة غيره عليه، والبعض يتحجج حتى بجيناته، فلا يقاوم بل يستسلم بالكلية.

ربما حرم شخص نفسه من السعادة مع شريك حياة رائع ليتفرغ للتحسرعلى حبيب الأمس الذي خذله، وأخرى تترك نفسها فريسة القهر والغضب والغيرة بسبب زوجها الذي تزوج بأخرى، وآخر يرفض مواجهة مشكلة وزنه الزائد بجدية ويفضل التقوقع على ذاته ثم لا يكتفي بالاستسلام لوضعه بل يمعن في إيذاء نفسه بالانغماس أكثر فأكثر في التهام كل شيء دون حساب فهو إما رشيق ذو وزن مثالي وإما سمين لدرجة مرضية، إنهم لا يؤمنون بالحلول الوسط، التي ربما تكون هي سر السعادة الحقيقية.

إن الحلول الوسط (فن) بحاجة للمتابعة والتدريب، وكلما ازداد إتقانك لهذا الفن استطعت أن تبدع في تسيير أمورك بشكل أفضل، من الأمثلة الرائعة على ذلك ما ورد في كتاب (حدائق الملك) للمغربية فاطمة أوفقير التي قام محمد الخامس بسجنها هي وأطفالها وخادمتيها سنوات طوالا في عدد من الزنزانات المتقاربة دون أن يسمح لهم برؤية بعضهم البعض حيث كانت المواعيد اليومية لخروج كل منهم من الزنزانة تختلف عن الآخر، فما كان لديها من حيلة لترى أطفالها إن هم مروا أمام زنزانتها إلا أن تسكب بعض الماء على أرض الزنزانة قرب فتحة الباب السفلى وتمعن النظر في (الماء المسكوب) آملة أن يمر أحد أبنائها فترى انعكاسه على الماء، وكان لها ذلك، إن تمتعها بفن الحلول الوسط حال بينها وبين الجنون عشرين عاماً سجنت فيها في عدد من السجون والإقامات الجبرية، ظلت فيها تحتال بطرق عجيبة لتستطيع اختراع وسائل لقضاء الحاجة ووسائل لحفظ الطعام ووسائل للتواصل مع أبنائها وتعليمهم! بل وحتى وسائل للاستمتاع بالوقت تحليقاً بالخيال، وفي النهاية استطاعت هي ومن معها الهرب من السجن المرعب بحفر نفق بوسائل بدائية جداً وإخفاء آثاره بذكاء مذهل، ولم يصدق أحد أنهم تمكنوا من الفرار بل أصر البعض جازماً أنهم استعانوا بالجن.

نحتاج أن نتعلم ونعلم أبناءنا فن الحلول الوسط، لا بد من وجود أرضية صلبة تقف عليها مهما كان وضعك، لا بد من المساومة كي تستطيع إكمال مشوار الحياة بسلام داخلي ونجاح على أرض الواقع مهما كان حجمه بسيطاً، العبرة ليست بالإنجاز بحد ذاته وإنما بسعيك المستميت له وإصرارك على استحقاقك الأفضل، استمع لذلك الصوت الداخلي المتألم الذي يحاول انتشالك من الاستسلام للإحباط، إن سر انزعاجك الشديد من وضعك هو إيمان فطري بأنك لا تستحقه، وبالفعل كلنا يستحق الخير، استغل ذلك الصوت الهامس واجعله يعلو في داخلك، أنصت له جيداً، هو يقول إن هذا الوضع لا يلائمك، إنك أفضل من هذا، وهذا يعني أنك تستطيع الحصول على الأفضل الذي تستحق، ليس بالضرورة أن يكون الأفضل شيئا تحدده بمزاجك، هو أفضل من الآن وهذا ما يهم في الوقت الحالي.

فيا من يكره في زوجته خلقاً ما، تعامل مع الوضع بحكمة وتذكر أنك إن كرهت منها خلقاً رضيت منها آخر، يا من "طردته" الجامعة أتعجز عن بعض الدورات هنا وهناك تطور بها من مهاراتك؟ فإن لم يكن البكالوريوس من نصيبك فلا تحرم نفسك مما هو دونه، يا من لم يرزق الذرية ما رأيك في الحل الوسط الذي يشبع رغبتك في وجود الأطفال بكفالة يتيم أو التطوع لدى مؤسسات تعنى بالأطفال؟ بل يا من أردت أن تصبح رائد فضاء ألا تستطيع الآن اقتناء تلسكوب يقربك من النجوم لتعيش معها سويعات يومية تشبع فيها رغبتك في السباحة بين المجرات؟ إنها (الحلول الوسط)، تلك المساحة الرمادية الفسيحة الرائعة الموجودة بين ضيق سواد الإحباط وسعة بياض الأحلام.



جريدة الراية القطرية الإثنين21/11/2011
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=605490&version=1&template_id=168&parent_id=167

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

.. وأمسكت بالقلم

ما أجمل أن تتخذ بادرة العودة فتمارس أمراً تحبه بعد فترة انقطاع، هي خطوة أولى قد تستثقلها النفس ولكن ما إن تتم حتى تتلوها خطوات أخرى متتابعة سلسة، اتخاذ قرار العودة قد يستغرق الشخص أعواماً طوالا تكون فيها العودة فكرة لذيذة تداعب خياله كلما خنقته مشاغل الحياة، ولكنه يؤجلها لأسباب منها التكاسل أو خشية الفشل أو ضيق الوقت بسبب سوء إدارته.

كثير من الناس يترك هواياته بعد أن تشغله الحياة بالعمل أو التجارة أو الزواج أو غيره، إنك حينما تمارس أمراً تحبه تكون "أنت"، لا تكون فلاناً الأب، ولا فلاناً الزوج، ولا فلاناً الموظف بالهيئة الفلانية، لست فلاناً ابن العائلة الفلانية، ولا فلاناً ذا المستوى المادي الفلاني، تتحرر من جميع القيود والمسميات، لتكون أنت أنت، مستجيباً لصوتك الداخلي الجميل.

إنه الوقت الذي تكون فيه ممسكاً بريشة ألوان وتفرغ في اللوحة بعضاً من خلجات نفسك، أو مراقباً للعالم من وراء عدسة كاميرا ترصد جمالاً لا ينتبه له الآخرون، أو ممسكاً بصنارة صيد متأملاً في الأفق على مد المحيط ترتقب صيداً مجهولاً من عالم لا تراه فوق السطح، أو جالساً بين مقاعد ملعب لكرة القدم متفاعلاً مع حركات اللاعبين و محاطاً بانفعالات المشجعين وصفارات الحكام، أو مبتكراً لطبخة ما تستثير حاسة التذوق لدى من معك وتثير إعجابهم بمهارتك، أو صانعاً لسيارة عتيقة بتركيب قطع من سيارات الماضي لتبتكر تحفة فنية من مركبات الزمن الجميل، هو ذلك الوقت الذي ندين به لأنفسنا، الذي ننفصل فيه عن تحديات الواقع وتراكمات الماضي، الذي ننسى فيه الأهل الذين تنكروا أو الأصدقاء الذين ابتعدوا أو الأحبة الذين تغيروا.

يستهين الكثيرون بأهمية قضاء وقت يمارس فيه الإنسان شيئاً يحبه أو يجيده، سواءً بهدف الترفيه أو ربما لكسب مصدر دخل إضافي، تتضاءل همومنا حينما نشغل مساحات الخاطر بمهارات كتلك، لا يبدو الواقع بالسوء ذاته، ولا العدو بالخبث ذاته، ولا الشريك بالتقصير ذاته، يطول بالنا أكثر في مواجهة تحديات تربية الأبناء ومشاكل الخدم، ويتسع صدرنا أكثر لاحتمال مضايقات زملاء العمل، يكون الهم جزءاً من حياتنا بدلاً من أن تكون حياتنا جزءاً من الهم.

كم من خيانة زوجية كان من الممكن تفاديها لو أن الزوج انشغل عن المرأة الأخرى بصقل هواية ما، وكم ضاقت ذات اليد بأناس كان يمكنهم أن يرتقوا بمستواهم المعيشي بكسب رزقهم من مهارة أوجد الله جذورها فيهم لكنهم ما رعوها حق رعايتها بل دفنوها في دواخلهم حتى كادت أن تختفي، بل كم من أمراض نفسية كان يمكن أن يتفاداها الشخص لو أنه أشغل باله باهتمام صحي في إنجاز أمر يحبه فتتحقق له ثقته بنفسه وإحساسه بكفاءته، وكم من زوجة اختارت الطلاق لا لشيء سوى أن مشاكل الحياة الزوجية كانت في عينيها أكبر من حجمها الحقيقي لأنها لم تتمكن من التفكير بعقلانية إذ لم تخرج نفسها من الجو العام بممارسة أمر تحبه يبعث في داخلها الأمل بالتغيير.

هو مقال أول، مصافحة أولى ودعوة لنفض الغبار عن ذواتنا، للعودة لأمر كان، لعل الزمن الذي قضيناه بعيداً عن أنفسنا قد صقل بعضاً من أرواحنا، لنعود لممارسة تلك المهارة بحكمة أكبر وصبر أجمل حتى نسترجع تلك القدرة الجميلة بعد طول انقطاع، وفي كثير من الحالات كانت العودة أجمل، كحال المرأة التي كانت تهوى الطبخ ثم انشغلت عنه أعواماً لتعود بعدها بإشراق أكبر فتفتتح مطعمها الخاص وتمارس المهنة احترافاً، العودة أجمل لأن حافزها أعمق، أتت من باب الضرورة و لم تأتِ ترفيهاً فحسب، أتت كاستراتيجية للبقاء، للمحافظة على الصحة النفسية للشخص حتى يظل متزناً في مواجهة أمواج الحياة المتلاطمة، ما أجمل العودة وهنيئاً للعائدين.



جريدة الراية  القطرية - الإثنين14/11/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=604159&version=1&template_id=168&parent_id=167