الأحد، 24 مارس 2013

تكشيرة الصباح

حين يُحاصرك الازدحام المروري صباحًا في طريقك للعمل؛ تلفّت حولك وانظر إلى وجوههم، مدخّن حانق يزفر بعصبيّة مُخرجًا من رئتيه دخانًا كثيفًا، امرأة ترتدي نظارة قاتمة كبيرة تُغطّي أكثر ملامحها ورغم ذلك تفشل في إخفاء العبوس الصباحي الشديد، أصوات تتعالى وأذرع تخرج من السيارات مندّدة ببعضها بعضًا، سائق متوتر يخشى أن يستسلم لإلحاح الطالبة الجامعيّة التي يُقلّها بزيادة السرعة وتخطّي السيارات فيتورّط بمخالفة يُواجه بها أباها/كفيله فيما بعد، أجواء مزعجة كفيلة بإفساد اليوم بأكمله لدى البعض، رغم أنه صبح يتنفس أقسم به الخالق من فوق سمواتٍ سبع.
 
تصل للعمل فلا يردّ أحد السلام كاملاً إلاّ من رحم ربّي من القلة التي استطاعت الوصول بنجاح إلى كلمة بركاته، وكثير لا يصلون إلى اللام التي تلي السين في كلمة السلام، إن كنت مراجعًا في جهة حكوميّة فمصيرك متوقف على كون الموظف حصل على قهوته أم لا؛ وإن كنت محظوظًا حقًّا ستأتي بعد أن أتمّ إفطاره واستعدّ أخيرًا للبدء في العمل بعد أن توسّطت الشمس كبد السماء، إن كنتِ طالبة فليس لكِ إلاّ أمنية أن معلمّتك قد شبعت نومًا البارحة ولم يُكدّر صفو صباحها شيء لتصبّ جامّ غضبها على الطالبات.
 
من المفارقات العجيبة أن أعداء الصباح لا يكتفون بالغضب منه وإنّما يمتدّ غضبهم إلى كل مبتسم ارتكب جريمة "الروقان الصباحي"، فتراهم يستنكرون عليه راحته وترتفع حواجبهم بالسؤال الاستنكاري: أيّ نوع من البشر يبتسم في الصباح الباكر، يا لتفرّغه!
 
إن كنت من التعساء صباحًا فعليك مراجعة نفسك وإصلاح الوضع، وتأكّد بما لا يدع مجالاً للشك أن العيب ليس في الصباح، فمن السنن الكونيّة أن البركة في البكور، العيب فيمن قرّر أن يسهر ليله وهو يعلم أن عليه الاستيقاظ مبكّرًا، العيب فيمن نام عن صلاة الفجر فصحى متأخّرًا عن العمل وقد فاتته أولى بركات الصباح، ومن المرجّح أنه لن يقرأ القرآن أو أذكار الصباح في خضمّ التوتر الصباحي اليومي حيث سيُسابق الوقت للوصول إلى مكتبه ناسيًا في طريقه أشياء كثيرة، لن يملك الثقة بمظهره ولن يعرف النشاط طريقًا إليه، سيقضي يومه مراقبًا الساعة في انتظار انتهاء العمل، كما قضى أسبوعه مُجرجرًا جسده من السرير كل صباح يسوق نفسه سَوْقًا لمكتبه في انتظار إجازة نهاية الأسبوع ، ليس من الحكمة أن نُضيّع أعمارنا في انتظار "الويك إند" لنُصدم بسرعة انقضائه في كل مرّة، كل مرّة، رغم أن الصدمة يُفترض أن تُبنى على عنصر المفاجأة.
 
تحيّة امتنان أُوجّهها للموظفة صاحبة التكشيرة السامّة التي تستقبل بها المراجعين باستمرار، كتبت هذا المقال من وحي جبينك المقطّب، أشكرك على الابتسامة المجّانية التي بخلت بها، أشكرك لأنك جعلتيني حريصة على عدم جرح صباحاتهم بظروفي الخاصّة التي لا ذنب لهم بها، وأتمنّى من كل قلبي أن يجد هذا المقال طريقه إلى يديك عَلّكِ تتحسّسين بهما ما على رأسك.
 
الراية القطرية - الاثنين 25/3/2013 م
 

هناك تعليق واحد:

  1. هنا قلم ينثر إبداع الحرف في أسلوب جميل وأفكار نيرة ، هنا ثراء يندر حضوره في خضم الأعمدة والمقالات الفارغة .
    هذا المقال بفكرته المهمة و لغته الرائعة وبيانه المشرق و عزفه على وتر حسا
    س وهو الاكفهرار اليومي الذي يصدمنا به بعض البائسين ، هذا المقال حري أن يعلق على رأس كل موظف متثاقل و أن يعلق على باب كل مكتب يجثم فيه ثلة من الكسالى .

    إبراهيم يوسف

    ردحذف