الأحد، 2 يونيو 2013

شكراً على تدخلك في حياتي

يقول: درستُ في الخارج أنا وصديقي، قررنا أن نتزوج من ذلك البلد الأجنبي حيث أَحبّ كل منا زميلته في الدراسة، ما إن عدت للوطن وأخبرت أهلي برغبتي هذه حتى شنّوا الحرب علي، شعرت بالظلم والقهر واستسلمت لضغوطاتهم فتخليت عمن أحبها قلبي، أما صديقي فقد تزوج فعلاً من ذلك البلد وحقق ماكنت أتمنى تحقيقه.
 
ومرت السنوات، تزوجت فيها فتاة من بلدي برضا أهلي وأصبحت أباً لأبناءٍ أكبرهم اليوم على أعتاب المرحلة الجامعية، حاولت أن أطوي تلك الصفحة من حياتي بكل ما فيها من ألم إلا أن الجرح لم يلتئم بالكليّة، حتى أتى اليوم الذي التقيت فيه بصديقي القديم فكانت المفاجأة.
 
نظر لي وفي عينيه ألف كلمة، سألته عن أخباره فتنهد بعمق وقال: من أين أبدأ؟ من أبنائي الصغار الذين لايتحدثون إلا لغة والدتهم، أم من ابني الأوسط الذي أخجل من الحديث عنه، أم من مصيبتي الكبرى ابنتي البكر التي ورثت تمردي وعنادي، أسميتها باسم والدتي فغيرته ليلائم ديانة والدتها وهربت مع صديقها الذي وشمت اسمه على جسدها كما هربتُ أنا من جلدي قبلها بعشرين عاماً فتزوجت أمها في يومٍ أتمنى الآن لو لم تشرق علي شمسه.
 
عدت إلى المنزل ذلك اليوم بخواء غريب، اختفى الغضب الذي حملته في داخلي عمراً،اختفت الغبطة التي كنت أشعر بها نحو صديقي، اختفى الوهم الذي أَثقَلتُ كتفي بحمله، ما أجمل الواقع، أي امتنان أشعر به الآن للأهل الذين نجحوا في منعي من اتخاذ ذلك القرار، أي راحة تسكنني الآن في بيتي حيث زوجتي الصالحة وأبنائي، كلهم يتحدثون لغة أفهمها، لا أعني هنا لهجة الوطن الجميلة فحسب، وإنما لغة من نوع آخر.. أفهمه.
 
قصة هذا الرجل أعادتني للمواقف التي منعني فيها والداي مما كنت أريد، تذكرت بكائي المرير وأنا طفلة عندما منعتني أمي من المبيت لدى الجيران رغم أن أمهات صديقاتي يسمحن بذلك، تذكرت حزني الشديد حين أجبرني أبي على الاستمرار في الجامعة بعد أن قررت الانسحاب في لحظة تهوّر، وتذكرت الكثير.
 
يتدخل الأهل أحياناً بدافع الحب ليمنعونا من إيذاء أنفسنا وإن لم نقدّر ذلك لصغر السن وقلة الخبرة حيث لا نرى الحياة كما تراها أعينهم الناضجة، فكما يُجبر الأهل أطفالهم على حقن التطعيمات مهما زلزل بكاؤهم أركان المستشفى؛ يستمرون على ذلك طوال العمر لاسيما في المجتمع الشرقي الذي يقدّر تضحياتهم ويحض على برّهم، لا أنكر أن بعض الأهل قد يظلمون أبناءهم ويسيئون الحكم على الأمور لكنّي أتحدث في هذا المقام عن العقلاء منهم.
 
الأهل الصالحون لايهمهم بكاء الطفل الذي يريد تناول ماسيضره، فصحّته أثمن من دموعه التي ستجف بعد حين، الأهل الصالحون لايهمهم صراخ الطفلة التي لم يسُمح لها باستخدام الأجهزة الالكترونية طوال اليوم، فعيناها أهم من رضاها، الأهل الصالحون لن يسمحوا لابنهم الشاب بتدمير مستقبله بقرار اتخذه في لحظة طيش.
 
ويظل تدخلّهم في حياة أبنائهم سافراً و رائعاً لايخضع لقوانين البشر ولايعترف بالخصوصية، تحرّكه أقوى الدوافع على الإطلاق: حب غير مشروط، فلاأحد سيحب أبناءهم بقدرهم، ولا هم يطالبون بحب مقابل حب، هدفهم الأوحد أن نكون بخير، غياب المصلحة الدنيوية أمر مذهل، اللهم حرّم أجسادهم على النار.
 
الراية القطرية - الاثنين 3/6/2013 م
 
 

الأحد، 26 مايو 2013

لا تسمح لشيء أن يقتل كل شيء

سألته: لو عاد بك الزمن إلى الوراء أي خطأ كنت ستمنع نفسك من ارتكابه؟ فأجاب بلا تردد: ترك الجامعة، ففي عامي الدراسي الثاني أساء لي الأستاذ الجامعي بكلمة جعلتني أتشاجر معه وأقرر بعدها بتهور أنني قد اكتفيت من الدراسة وسأتجه للعمل، أعلم اليوم أن ذلك كان أغبى قراراتي على الإطلاق، وددت لو أن أحداً أقنعني بالعدول عنه.
 
استوقفتني تغريدة للشاعر فهد المنخس يقول فيها "لا تسمح لشيء أن يقتل كل شيء"، تكون ردود أفعال البشر أحياناً فادحة، يحرمون أنفسهم من كل شيء لأن شيئاً واحداً فقط قد خذلهم، لا تنفض يدك من الأمر برمته لمجرد أن أحد تفاصيله لا يعجبك، فهذا من نقص الحكمة ومن سوء تقدير المواقف، إن وجدت في نفسك شيئاً من ذلك فراقبها وامنعها من أن تمارس هذا الظلم عليك، وفي هذا السياق ثمة قاعدة تقول "ما لا يُدرَك كُلّه لا يُترَك جُلّه".
 
حقاً لا تسمح لشيء أن يقتل كل شيء، من خانك لم تقتل خيانته فرص الحب الأخرى التي ربما يكون أحدها أمام عينيك، الصديق الذي خذلك لم يلغ الصداقة التي مازال الكثيرون يستمتعون بدفئها، الموظف الذي آذاك لا يبرر أن تترك وظيفتك الحالية بكل مميزاتها، الوطن الذي ظُلِمت فيه لا يعني أن تنفض يديك منه وتهاجر لاهثاً خلف هوية لن تجدها في أي مكان آخر.
 
الأمر ذاته ينطبق على العلاقات الإنسانية، فمن كره من زوجته خُلقاً رضي منها آخر، لكن الكثيرين سمحوا لعيب واحد في الشخص أن ينسف كل مميزاته، لا أنكر أن بعض العيوب لا تطاق، لكن ثمة مميزات تجعلنا نتنازل عن تمسكنا بصفات اخرى، وفي هذا السياق يقول الإمام الشافعي: تَسَتّر بالسخاء فكل عيبٍ.. يغطّيه كما قيل السخاء.
 
العيش في جلباب الأمس ليس السبيل الأمثل لنمضي في هذه الحياة، علمني الوجع أن الكمال في الجنة وأن علينا أن نتأقلم مع نقص الدنيا ،هذه دعوة لمداواة الجروح قدر الإمكان كي لا تزحف آثارها إلى أبعاد حياتنا الأخرى، فالحياة أكبر من أن نختزلها في حدث واحد، كالبحر الذي مهما طفت على سطحه بعض الوريقات يظل عميقاً في أحشائه الدُّر كامنٌ، إنك حين تعطي الموقف أكبر من حجمه تتضاءل قيمتك كإنسان في مواجهته وهذا من الضعف، ولا مكان هنا للضعفاء.
 
 
الراية القطرية -  الاثنين 27/5/2013 م

الاثنين، 20 مايو 2013

لاتسافر مع هؤلاء

يعود صديقك من السفر ليُحدّثك عن تفاصيل رحلته، تتفاجأ بأنه لا يتحدّث عن الدولة التي زارها بقدر حديثه عن رفيق السفر الذي ربّما كان السبب الرئيسي في نجاح أو فشل الرحلة بأكملها، يُخبرنا الناس بعد عودتهم من السفر بقصصهم مع رفقائهم بحماس شديد أو بندم شديد، وقد قيل: الرفيق قبل الطريق، لذا فلا تُسافر مع هؤلاء ما لم يكونوا من الأهل المقرّبين، أوما لم تكن مثلهم في هذه الصفات:
 
1- الذي لا يلتزم بالوقت: يقال إن من لا يلتزم بالوقت لا يحترم الآخرين، لن يعتذر إن رآك تنتظره وحيدًا في بهو الفندق، ستجد نفسك قد أضعت الكثير من وقت الرحلة في التذمّر من بروده وعدم مراعاته للمواعيد التي تتفقان عليها، ستحترق قهرًا في انتظاره بالساعات ليُطلّ أخيرًا متسائلاً باستنكار عجيب: "ألم تطلب منهم بعد أن يحضروا لنا السيارة؟ أسرع واطلبها قبل أن نتأخّر بسببك!" المخيف في الأمر أنه لم يكن يمزح.
 
2- البخيل: اعلم أنك ستضطرّ لدفع معظم النفقات، فهو سيدرس بعناية كيفيّة التنصّل من المساهمة في أيّ خطر يمسّ جيبه، إن تَكَفّل بنفقة سيارة الأجرة سيدّعي بعد الوصول لوجهتكما أنه تفاجأ بعدم وجود فكّة لديه، إن تطوّع لدفع ثمن شيء سيكتشف اختفاء محفظته في ظروف غامضة.
 
3- ضعيف الدين: إن كنت متديّنًا ستتعارض اهتماماتكما بشكل صارخ، لن يُرحّب باللهو البريء المقتصرعلى استكشاف الطبيعة وإنّما سيسعى إلى استكشاف كل ماهو مشبوه، ستتفاجأ به مخمورًا وربّما اضطررت للاعتناء به حتى يصحو من سكرته قبل أن يفضحكما، ستكره أن يراك أحد معه فتُتّهم بما فيه، إن كنتِ فتاة ملتزمة فلن يسرّك تبرّجها، وربّما استَغَلّت حسن سمعتك لتتمكّن من إقناع أهلها بالخروج معك كي تلهو بمقابلة الرجال حتى أثناء وجودك معها وإن لم تعلمين.
 
4- المزاجي: مهما كان الجو في الخارج جميلاً لا بدّ أن يُعكّر مزاجه المتقلب صفو الجو بينكما، يضحك معك اليوم وتتفاجأ به في اليوم التالي عابسًا ساخطًا دون مبرّر، يتحوّل مزاجه الحسن إلى نقيضه بمقدار 180 درجة بسبب موقف تافه عابر، ستجد نفسك ملزمًا بتحمّل ثقل دمه وسوء أدبه مع الآخرين حين يُملي عليه المزاج أوامره فيُلبّي النداء كأنّه مسيّر لا حول له ولا قوّة.
 
5- كل شخص فيه صفة تكرهها: وهذا الأمر يختلف باختلاف شخصيّتك وقدرتك على تحمّل المزعجين، إن كنت تكره الثرثرة مثلاً فلا تُسافر مع ثرثار لا يُمهلك ساعة يُريح فيها فمه لتتمكّن من النوم في الطائرة، إن كنت محبًّا للنظافة والترتيب فلا تُسافر مع فوضوي يتسبّب في ضياع الأشياء ولا يُفكّر في من سيستخدم دورة المياه بعده، وهكذا.
 
كتبت حديث هذا الاثنين بوحي من قصص رحلات الأقارب والأصدقاء، قد ترى أنه لا يخلو من مبالغات لكن العكس هو الصحيح، فقد امتنعت عن ذكر بعض الأمثلة لاستعصاء تصديق القرّاء لها، فقصص العائدين من السفر غريبة عجيبة، لأن الناس في السفر يُظهرون حقيقتهم بشكل صارخ، ولذلك فلعلّ الصنف السادس من الأشخاص الذين أنصح ألاّ تُسافر معهم كذلك هم: الذين لم تعرفهم بعد حقّ المعرفة، فصدمتك بهم قد تفوق كل تصوّر.
 
الراية القطرية - الاثنين 20/5/2013 م
 
 

الأحد، 21 أبريل 2013

مالنا غيرك

 
 
تستوقفني مراراً جملة "مالنا غيرك" بصوت محمد عبده في رائعة د.عائض القرني: لا إله إلا الله، رغم أني استمعت لهذه الأنشودة في مواقف مختلفة إلا أن وقعها على مسمعي يختلف في كل مرة، هي تحفة فنية إن استمعت لها في سيارة في طريق فسيح ماداً ناظريك للأفق البعيد مستمتعاً بما حولك من خضرة أو صحراء لأضافت إلى سعادتك أضعافها، وإن أنصت لها في زاوية مظلمة بصدر فاض هماً لابتلّت وجنتيك رأفة ورحمة.
 
بما أن القصيدة أعظم من أن تُلخص في مقال متواضع حيث رسم القرني حروفها بخلاصة علمه الغزير وتحدى الشعراء بثقة في مجاراتها؛ فقد آثرت أن أتحدث عن كلمتيّ "مالنا غيرك" بمعنى: ليس لنا سواك، وهما أصدق تعبير عن حال الأمة التي لن تجد العزة بغير الإسلام، "مالنا غيرك" بعد أن تكالبت علينا الأمم فتداعت علينا كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
 
كما أن "مالنا غيرك" هي أبلغ ما يقال على لسان الأفراد باختلاف أوضاعهم، كلنا وكل شيء في حاجة ماسة لله، يظل الإنسان يبحث عن أسباب متناسياً مسبب الأسباب ربه ورب كل شيء، لعل التعلق بالأسباب أحد أكثر أمراض العصر الحديث انتشاراً، يسعى أحدهم لتحقيق حلم الوظيفة فيطرق كل الأبواب وينسى أن يضبط المنبه على الثلث الأخير من الليل ليطرق الباب الأعظم، يبحث آخر عن زوجة مناسبة في كل مكان رغم أن ما بينه وبينها هو في الحقيقة سجدة واحدة يتضرع فيها بـ"يارب"، يلجأ آخر لأشهر الأطباء رغم أن علاجه قد يكون في ريالات يدسها في جيب فقير يراه عند باب المستشفى ذاته.
 
رغم أن علينا استشعار "مالنا غيرك" في الرخاء والشدة، إلا أن اليقين بها يهجم على الناس في أوقات الأزمات لينتشلهم من براثن اليأس، "مالنا غيرك" يصرخ بها البحارة إذا هاجت الريح وتصاعد الموج فكادت السفينة أن تغرق،"مالنا غيرك" يلهج بها لسان سائق تاه في قلب الصحراء ونفد الوقود والماء وانقطعت الاتصالات إلا اتصال السماء، "مالنا غيرك" يبتهل بها مريض وقف الطب عاجزاً أمام وضعه وقرر الأطباء أنه يحتضر، "مالنا غيرك" يرفع بها مظلوم يديه إلى السماء فيَنزل الانتقام قبل أن يُنزِلَهما.
 
الخطوة الأولى لإصلاح الوضع أياً كان هي التسليم بالاحتياج المطلق لله، وبأن ينسب الفضل إليه فهو صاحب الفضل من قبل ومن بعد، "مالنا غيرك" يتخلص بها الإنسان من عبودية الأسباب فيكفيه الله من كل شيء، أليس الله بكافٍ عبده؟
 
حي يا قيوم أنا باسألك بأم الكتابْ
                حاجةٍ في كامن القلب وأنت أدرى بها
اعفّ عنا يا مجير النبي من العذابْ
                 واعف عن أمة محمد فهو وصّى بها
(د.عائض القرني)
 
الراية القطرية - الاثنين 22/4/2013 م

الأحد، 14 أبريل 2013

سعودي ولكن لقيط

قرأت مؤخّرًا كتاب "سعودي ولكن لقيط" لكاتبه سمير محمد، يتحدّث فيه عن حياته منذ بدأها في دار الرعاية، ألقى الضوء على مواقف ومشاعر كثيرة تزدحم داخل أولئك البشر، كما تَطرّق إلى النظرة الدونية لفئة مجهولي الأبوين وذكر الكثير من الأمثلة.
 
جعلني كلامه أسترجع بعض الممارسات التي نفعلها دون قصد فنُغذّي بها هذا النهم المريض نحو إقصائهم وتحقيرهم، ومن الأمثلة كلمات أغنية "العشرة ما تهون.. إلاّ على ابن الحرام!"، ومن المواقف اليوميّة الأم التي تُحذّر ابنها من "أبناء الحرام" رغم أن "أبناء الحلال "من "أصدقاء السوء" هم الخطر الحقيقي، بغضّ النظر عمّا يُقصد من هذه التسميات فإنها تظلّ بشكل أو بآخر مرتبطة بتلك الفئة المظلومة.
 
بعد جلسات طويلة مع الذات وصل الكاتب أخيرًا إلى قرار التسامح مع مجتمعه والتوجّه نحو التفكير الإيجابي مما حقق له النجاح الأكاديمي والوظيفي، كما مارس الكاتب سيطرة كبيرة على نفسه وتحكّمًا يُثير الإعجاب في رغبات هذه النفس، يصعب التصديق أن شخصًا لم يمنح نفسه الضوء الأخضر لارتكاب المحرّمات مع غياب الرقيب العائلي أو القبلي، لكن تقوى الله هي بحقّ ميزان التفاضل بين الناس.
 
تحدّث الكاتب بإسهاب كبيرعن القَبَليّة التي بحث فيها شخصيًّا، حيث أخضع أبناء القبائل من أماكن متعدّدة في المملكة للدراسة، كما تعمّق الكاتب في تحليل النظام القَبَلي في المجتمع وانتقاده بكشف عيوبه وتناقضاته وتدخّلاته السافرة التي تتلاعب في كثير من الأحيان بأنظمة الدولة، والتي قد يصل ضررها إلى حياة الفرد الخاصّة حيث تعوق تطوّره بسبب قيود القبيلة ومجاملات أبناء العمومة.
 
رغم إعجابي بمبادئ الكاتب واتفاقي مع معظمها إلاّ أني أرى أنه للأسف يخوض معركة غير متكافئة الأطراف، خصمه فيها الصحراء وهو حبّة من رمالها، التعصّب القَبَلي وُجد قبل الإسلام ولا تزال سطوته إلى اليوم أقوى من الدين لدى الكثير من الناس، لا أرى في المستقبل القريب أيّ نور في آخر النفق بل مزيدًا من الأنفاق اللامنتهية.
 
ختامًا أسجّل إعجابي الشديد بالاهتمام الصادق الذي تُوليه المؤسسة القطرية لرعاية الأيتام (دريمة) لفئة مجهولي الأبوين، ففي الوقت الذي انشغل فيه الكثيرون بمادّيات الحياة وانهمكوا بالتطاول في البنيان؛ يظلّ في المجتمع أفراد أنقياء حملوا على عاتقهم فعل ما يجب علينا جميعًا فعله، وأبدعوا أيّما إبداع في تعويض تقصيرنا، بارك الله في جهودهم، ونفع بهم البلاد والعباد.
 
الراية القطرية - الاثنين 15/4/2013 م

الأحد، 7 أبريل 2013

Rock Bottom (2-2)

يقول أحدهم: اللحظة الحاسمة التي جعلتني أتخلص من إدمان المخدرات هي حين أوشكت أن أفقد أغلى ما أملك: عقلي، أفزعتني فكرة أنني قد أجن، عندها قرّرت أنني قد اكتفيت حقاً من الإدمان وهرعت باكياً إلى أقرب شخص لأترجاه كي يساعدني في إسكات الأصوات التي بدأت أسمعها في رأسي.
 
حين يتدهور وضعنا إلى الحد الأقصى ولا نتصور أن من الممكن أن يزداد سوءاً، كأنما ارتطمنا أخيراً بالصخرة في قعر الحفرة بعد انحدار طويل، لم يعد من الممكن النزول أكثر من ذلك فاضطررنا أخيراً للصعود، هذه هي الحالة الذهنية المسماة Rock Bottom التي نقرّر فيها أننا قد اكتفينا، قد يكون الوضع على درجة عالية من السوء فيخيل للمرء أن الموت أجمل من الاستمرارعلى ما هو عليه.
 
تختلف حدة هذه التجربة من شخص لآخر، البعض يمر بها حين يخسر أو يكاد أن يخسر شيئاً لا يتصور حياته بدونه، يتجلى له فيها أسوأ كوابيسه في حال يقظة، تُمثل لدى البعض دخول السجن ليفهم أخيراً أن عليه مواجهة مشاكله المالية، آخرون لحظتهم الفاصلة هي حين يفاجأون بخيانة شريك العمر فيتمكنوا أخيراً من التخلص من شباك التعلق بشخص لا يستحقهم، البعض لحظة الفهم لديه هي حين يُطرد من عمله ويجد نفسه عاطلاً.
 
كما أن هناك من لا يحتاج الكثير ليفهم الدرس، البعض لا تعدُ نقطة التحوّل في حياته نظرة خيبة أمل من أبيه أو دمعة من عين أمه، البعض تكفيه كلمة استهزاء واحدة ليقرّر أن يتغير، آخرون غيرّتهم آية قرآنية مرّت على مسامعهم أو فقرة من كتاب أو حتى مشهد تمثيلي عابر.
 
على الجانب الآخر هناك من لا يريد أن يستوعب دروس الحياة وصفعاتها المتتالية، يذكرني بذلك شخص خسر في سبيل اتباع هواه صحته، تركته زوجته الصالحة، طُرد من وظيفته، خسر الكثير، ولم يستشعر تلك اللحظة الحاسمة حتى قُبِضت روحه، لم يتأمل حاله بتمعن في حياته وأغلق قلبه عن كل محاولات الإصلاح الجادة، لحظة الصحوة لديه أتت متأخرة كثيراً، دفع عمره ثمنها.. حرفياً.
 
يكون ثمن لحظة التغيير فادحاً أحياناً، غالِ لدرجة أن نتساءل هل تستحق الحقيقة أن ندفع ثمنها هذا كله؟ رأيي الشخصي أن الثمن أياً كان يستحق أن يُدفع طالما أننا مازلنا على قيد الحياة ونستطيع إصلاح ما يمكن إصلاحه من أخطائنا قبل الموت، لأن الحياة وإن أنقصت خسائرنا منها الكثير فهي في كل الأحوال غير كاملة.
 
رُبَّ محنة منحة، يحتاج الإنسان أحياناً للمحن التي تشعل داخله ضوءً ما وتدفعه دفعاً إلى تعديل مسار حياته في التخلص من القيود التي كبّل نفسه بها، ولكن ليس من الحكمة أن نؤخر التوبة أو التخلص من الإدمان وغيره حتى تحين تلك اللحظة، لأنها قد لا تأت أبداً، يجب أن لا ننتظرها وإنما نسعى لصنعها بأيدينا إن لم تُقّدّم لنا على طبق من المرض يرغمنا على ممارسة الرياضة أو تزف لنا في جنازة صديق لنعرف أن العمر قصير.
 
إن مررت بلحظة الصحوة لاتتجاهلها، استشعرها واسمح لها أن تغيّر حياتك، أما إن لم تجدها فأوجدها ولا تؤجلها، فنحن لا نملك صلاحية تحديد وصولنا لتلك المرحلة، ولذلك فرغم إعجابي بقوة تأثير هذه اللحظة إلا أنني أؤمن أن في انتظارها سذاجة لا متناهية.
 
الراية القطرية - الاثنين  8/4/2013 م

الأحد، 31 مارس 2013

Rock Bottom (1-2)

 
 
كانت تُعاني من الوزن الزائد ولم تتمكّن من التخلص منه، لم أرها منذ ثلاث سنين، رأيتها مؤخّرًا فلم أتعرّف عليها إلاّ من صوتها حيث تغيّر شكلها الخارجي نهائيًّا، فرحت من أجلها ولم أتمكّن من التخلص من فضولي فسألتها كيف استطعتِ فعل ذلك؟ ما الذي دفعك للنجاح في إنزال الوزن بعد أن فشلت كل المحاولات في إقناعك بذلك؟
 
قالت لي: مررت في السابق كما تعلمين بمواقف كثيرة كان من المفترض أن تقنعني بالالتفات إلى خطورة وضعي وضرورة معالجته، لكني كنت أتجاهل كل الإشارات، تجاهلت تدهور وضعي الصحي، تجاهلت صعوبة التسوّق لعدم وجود ملابس تُناسبني، تجاهلت الاختناقات التي كانت تُوقظني من نومي عاجزة عن التنفس، تجاهلت نظرات الاستنكار حين أهمُّ بالدخول إلى مصعد مزدحم، تجاهلت تأخّري في الزواج في الوقت الذي امتلأت فيه أحضان صديقاتي بالأبناء، لقد أرسل الله لي الكثير من الإشارات والضربات المتتالية على رأسي فلم أفهم، حتى جاءت الضربة القاضية التي كانت بمثابة الصفعة على وجهي، شعرت أن شخصًا ما يهزّني هزًّا ويقول لي : كفى!
 
هذا الشخص هو أنا، وذلك بعد أمسية في أحد المطاعم المزدحمة، حيث ذهَبتُ مع صديقاتي لتناول وجبة العشاء، كان المطعم فريد الطراز يجمع بين الحداثة والتراث، جلست على الكرسي المصمّم ليُشبه الكراسي القديمة، ويبدو أنه يُشبهها في الجودة كذلك، حيث ظلّ يئنّ تحت وطأة وزني الثقيل حتى انهار بعد ربع ساعة فقط، كنت حينها قد بدأت للتوّ بتناول الطعام.
 
لكِ أن تتخيّلي وضعي في تلك اللحظة، لم أشعر بالإحراج قدر شعوري بالذلّ والكلّ ينظر لي من الأعلى، أأضحك على الموقف أم أصرخ من الألم؟ أأبكي أم أتصرّف كأن شيئًا لم يكن رغم أني لن أستطيع الوقوف دون مساعدة من عدّة أشخاص؟ أمّا ردود أفعال الناس فتباينت ما بين هدوء الكبار وضحكات الصغار، تهامس الفتيات ونظرات الشفقة، أي ردّ فعل في هذه اللحظة مهما كان ليس بمقبول، لأنّ الوضع بأكمله ليس مقبولاً، حتى أولئك الذين ألقوا باللوم على الكرسي لم يشفوا غليلي، لأني كنت غاضبة على نفسي أكثر من غضبي على أي شيء آخر، كيف سمحت لنفسي بالوصول إلى هذه المرحلة؟
 
ذكرني كلامها بكلمة rock bottom بالإنجليزية، التي تُترجم بنهاية الأمر أو النقطة الحاسمة أو اللاعودة، ويُطلق عليها أحيانًا مسمّى "الحضيض" في الحالات الشديدة، سأتحدّث بتفصيل أكثر وبمزيد من الأمثلة الواقعيّة عن هذه الحالة الذهنية بأبعادها المختلفة الأسبوع المقبل إن شاء الله.
 
الراية القطرية - حديث الاثنين 1/4/2013 م