الأحد، 3 فبراير 2013

تذكر أنك تحبهم

أتلفّت حولي يمنة ويسرة فلا أرى الحب الذي كنت أراه في السابق، وأخشى أننا بدأنا ننساه في هذا الزمن المادي البارد، أذهب للمطاعم فأستبشر برؤية العائلات مجتمعة، ثم أمعن النظر فأحبط مجدداً، لا أرى الفرح في أعينهم ولا الحماس في حديثهم، أراهم منشغلين بهواتفهم، وأكاد أجزم أن نقاشاتهم القليلة تمحورت حول الصور التي التقطوها لأطباقهم وردود أفعال الناس في الشبكات الاجتماعية على هذا الحدث العائلي الرائع.
 
إن الانشغال بالتوافه جعلنا ننسى قيمة الحب الذي هو أثمن ما نملك، ننسى الاستمتاع بقرب أحبابنا ثم نفاجَأ بأن العمر قد مرّ سريعاً، صغيرهم كبر، صحيحهم مرض، الموجود منهم غاب، والحي منهم مات، لم يغادرنا الجميع فجأة، البعض ينسحب من أمام أعيننا دون أن نلاحظ، سرقتنا منهم التوافه التي تزاحمت في عقولنا، سرقتنا الأجهزة الذكية، سرقنا هوس اقتناء كل شيء، سرقتنا الوظائف بأوقات عمل طويلة، شغلنا الانغماس بالبحث المستميت عن مصادر دخل إضافية، فلم يعد هناك مكان للأصدقاء ولا حتى للأهل، بل لم يعد هناك مجال لنمارس وظيفتنا الحقيقية هنا؛ وهي أن نعبد الله.
 
أعلم أن ما يشغلك عن أحبابك ليس بأغلى منهم، وأعلم أن ما تتشاجر معهم بسببه قد لا يستحق أن تخسرهم به، الفستان الغالي الذي أشبعت ابنتك ضرباً بسبب توسيخه لا يستحق دموعها، والغرض الذي لم يحضره لك زوجك من السوبرماركت لا يستحق أن يبات ليلة واحدة غضباناً من شجاركما بسببه.
 
في داخل قلب كل أم، يبات طفلها في المستشفى، ندم دفين على تبرمها من شقاوته في السابق، بل إنها تتمنى اليوم (وهو على السرير الأبيض) ذلك الإزعاج الذي ملأ أركان بيتها بدل هدوئه القاتل اليوم والرعب الذي يهجم عليها مع كل رنة هاتف، في داخل قلب كل أرملة وجع دفين على الشجارات التافهة التي عكرت بها ماضي زواجها من ذلك الراحل، تعلم اليوم أنها ( إن عاد للحياة ) لن تتبرم من رميه لحذائه يمنة ويسرة فور دخوله المنزل، لن تغضب إن رمى الجرائد على الأرض بعد قراءتها، لن تثور إن لم يخرجا معاً نهاية الأسبوع كما وعدها، بل إنها لن تعاتبه كثيراًعلى تأخره في العودة للمنزل طالما أنه بخير، تعلم اليوم (وهو تحت التراب) أن كل ما يهمها حقاً هو أن يكون بخير.
 
تذكّر في كل مرة تنزعج فيها من إلحاح أمك عليك لتناول لقمة من أحد أطباقها أنك قد تسترجع هذه الحادثة في يوم تتمنى فيه تقبيل هذه الأصابع التي تمتد لك الآن، تذكر في كل مرة يرن فيها هاتفك الجوال فترى رقم زوجتك ولا ترد أنك قد تشتاق يوماً لهذا الرقم فلا تراه، تذكر في كل مرة يطلب فيها أبوك أن تشاركه تناول وجبة طعام فتتهرّب متعذراً بالانشغال أن العمر قد لا يمهله أن ينتظر مشاغلك حتى تنتهي فتتكرّم عليه بتلبية دعوته، وتذكر في كل مرة تنام فيها عن تلبيه نداء الصلاة أنك قد تشتاق لبيوت الله يوماً فلا تتمكن من دخولها، وربما اشتقت للسجود فاستعصى ذلك على جسدك.
 
من عجائب المصائب ( كمصيبة الموت ) أنها تمنحنا وضوحاً شديداً في رؤية الأمور، تمكّننا من التمييز بين التافه والمهم، لكن المضحك المبكي أن ذلك الفهم يأتي متأخراً، بعد أن يعجز التافه عن تسليتنا، ونفقد المهم الذي لم نعد قادرين على الاستغناء عنه؛ لكننا نضطر إلى استكمال مشوار العمر بدونه.
 
جريدة الراية القطرية - الاثنين 4/2/2013 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق