الأحد، 27 يناير 2013

القشة

أراد رجل السفر إلى بلدة ما، فحَمّل جَمَلَهُ متاعاً ثقيلاً يتجاوز حِمل أربعة جمال، صرخ به الناس إشفاقاً على الجمل، لكنه لم يهتم وتناول حزمة تبن صغيرة رماها فوق ظهره وقال: هذه خفيفة وهي آخر المتاع.
 
كلنا يعرف نهاية القصة حيث سقط البعير وتعجب الناس فقالوا: قشة قصمت ظهر البعير! وكلنا يعرف أن القشة بريئة من تلك الجريمة رغم أنها السبب الظاهر الذي كسر ظهر البعير وسبّب هلاكه.
 
عند حدوث مشاكل كبيرة بمسببات صغيرة ابحث عما وراء القشة ، فحقائق الأمور تكمن فيما وراء الأسباب الظاهرة، اصرف النظر عن السبب السطحي الذي أشعل الفتيل، والتفت للتراكمات التي تجمعت في الصدور على مدى السنين، ففوهة البركان التي بدأ منها الانفجار كان أسفلها يغلي لفترة طويلة.
 
الخادمة التي هربت لم تفعل ذلك لأنك عنّفتها على كسر كوب، تلك هي القشة فحسب، ربما لأنك أحرجتها مراراً بالصراخ عليها لأسباب تافهة، ربما لأنك تأخرتَ كثيراً في صرف راتبها، ربما لأنها أصبحت مادة للاستهزاء أمام الضيوف يضحك عليها الصغير والكبير، لعل كرامتها انتفضت على الاسم المهين الذي قرر أبناؤك أن يطلقوه عليها فأصبح اسمها، ربما لأنها لم ترَ الشارع منذ شهور، لعلها تكره ملابس الخدم القبيحة التي أرغمتها على ارتدائها خارج المنزل فصارت تمشي وراءكم وتحمل مشترياتكم ليتضاعف إحراجها مما ترتديه، ألازلت تعتقد أن الكوب المكسور هو السبب؟
 
زوجتك لم تطلب الطلاق لأنك نسيت شراء شيء ما، تلك هي القشة فحسب، ربما طلبت الطلاق لأنك نسيت قبل ذلك أشياء أخرى كثيرة على مدى السنين، قد تكون نسيت اسمها في زحمة أسمائهن، قد تكون نسيت أن تمنحها بعضاً من وقتك أو مالك، لعلك نسيت الاطمئنان عليها حين كانت في أشد الحاجة إليك، وربما نسيت أن تحترمها فأصبحت فريسة سهلة للتجريح لأسباب تافهة، تتعالى صرخاتك عليها أمام الأبناء في البيت بل وحتى أمام الأغراب في الأماكن العامة، لَم تستغرب من قدرتها على الصبر سنيناً طوالاً تحملت فيها البخل والإهانة وتستغرب اليوم من رد فعلها؟
 
التراكمات هي النار الهادئة التي تنضج عليها الاختلافات حد الاحتراق والافتراق،التراكمات هي السبب الذي يجعل الإنسان غير قادر على وضع يده على موضع الألم بالتحديد، لأنها أمور صغيرة كثيرة أصبحت بين يوم وليلة مارداً فقدنا السيطرة عليه وصار يفتك بالأخضر واليابس، مما يجعل من حولنا مندهشين من القشة، رغم أنها القشة فحسب، ولكل حكاية أبعاد أخرى أعمق.
 
لاتستهين بالتراكمات فمعظم النار من مستصغر الشرر، وكلما حاولت السيطرة على التراكمات مبكراً سهل عليك التخلص من آثارها على حياتك، أما إن نفضت يدك من إصلاح وضع ما فأخرج نفسك منه، لا تنتظر القشة كي تقرر أنك لا تريد أن تعيش هذه الحياة بعد اليوم، فقد تأت القشة متأخرة جداً بعد أن تخسر أشياء ثمينة لا تعوض، وقد لا تأت أبداً، فتَعلَق في ذلك الوضع حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
 
جريدة الراية القطرية - الإثنين  28/1/2013 م
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق