الاثنين، 16 أبريل 2012

ماذا تنتظر؟



أمطرت سماء البارحة في عاصمة الضباب وأنا بصحبة بعض الأهل والصديقات ، آوينا مسرعات إلى أقرب مكان يعصمنا من الماء وكان بهو أحد الفنادق الفخمة، تحلقنا جميعاً حول طاولة انتظاراً لتوقف الأمطار وانضمت إلينا أخريات من جنسيات خليجية وعربية، استمتعنا سوياً بانتظار توقف الأمطار، وبدأت أحاديث السفر التي تسفر عن دواخل النفوس.


الحديث عن انتظار توقف المطر جر إلى الحديث عن الانتظار، أيقنت عندها أن الانتظار يشغل مساحات واسعة من حياة الجميع، قالت إحداهن إنها تنتظر تخرّج أبنائها من الجامعة بوجل وتخشى أن لايتحقق الحلم فتنهار خطط المستقبل الباهر الذي رسمته لهم، قالت بحسم إن شهاداتهم الجامعية ستسدل الستار على الانتظار.. ذلك الفصل المتعب من حياتها، وتساءلت في داخلي أحقاً هذه آخر الأحلام أم سيبدأ بعد ذلك مسلسل انتظار زواجهم وأبنائهم، وستظل تنتظر أموراً يتلو بعضها بعضاً وتسمى بالمجمل: حياة.


وقالت أخرى: لقد عاشت أمي تنتظر عودة أخي المسافر أعواماً ثلاثين حتى توفاها الموت دون أن تراه، فقد سافر إلى إحدى الدول الغربية للدراسة ولم نره بعد ذلك إلا بعد وفاتها على موقع الفيسبوك، قبل موتها بقليل أوصت أن نخبره إن ظهر في حياتنا مجدداً أنها راضية عنه، فهي لم تفن عمرها غضباً عليه وإنما كانت تنتظر فحسب، تنتظره بأمل لا بقهر، انتظرته حتى محى طول الانتظار كل المشاعر السلبية وظل الانتظار هو الحدث الوحيد المسيطر على حياتها حتى ماتت.

وأخرى ترقرقت عيناها بالدموع وهي تقول بعبرات مخنوقة وابتسامة تقطر شجناً "أنا لاأنتظر إلا أمراً واحداً لا أريد غيره، أنتظر لقاء أبي وأمي، ولن أرتاح حقاً إلا إن ذهبت حيث ذهبوا" وما أكثر من لا يجرؤ على اعتراف انتظاره للموت شوقاً لمن رحل.


وأخريات قلن أنهن ينتظرن الهداية، ولا أعلم إن كانت الهداية أمراً يُرجى وقوعه من السماء، كثير من الناس يتصرف وكأن بيده مفاتيح العمر فينتظر مثلاً أن يكبر سناً كي يؤدي فريضة الحج بعد أن يصل للعمر الذي لايقوى فيه على الكبائر عجزاً لا توبةً، ومنهن من تنتظر أن يمضي العمر ويفنى الجمال كي تقرر أخيراً أن ترتدي الحجاب وكأن الهدف منه تغطية الشيب وتجاعيد الرقبة.


من الناس كذلك وما أكثرهم من ينتظر الحب ليعوض به العمر الذي مضى، وما أكثر الهاربات من القحط العاطفي الذي لايكاد يروي ظمأه إلا دبلجة رديئة لمسلسلات عقيمة قدمت أمراً يشبه البديل.

وكثيرون ينتظرون الحظ كي ينزل عليهم من السماء لينتشلهم من براثن الإحباط، وهناك من ينتظر أن يجد نفسه التي أضاعها في زحمة الحياة ولم يعد يتعرف على ذلك الذي يراه يومياً.. في المرآة.


وتساءلنا.. كم الآن في مكان آخر من ساكني المستشفيات من ينتظر الموت على فراش المرض يجتر ماتبقى له من العمر اجتراراً وتمر عليه الأيام كئيبة يجر بعضها بعضها، وكم من المظلومين في هذه الحياة من أفنوا أعمارهم قهراً في انتظار الانتقام ولن ترتاح خواطرهم إلا بعد أن تنصفهم عدالة السماء.


وهناك من لايقوى على الانتظار، بل ويصل لمرحلة لايعد معها يريد ذلك الشيء الذي كان ينتظره، وربما أغلق الباب في وجه أحلامه المتأخرة، وربما تحولت مشاعر الشوق إلى مشاعر أخرى غاضبة و مدمرة.. آلآن؟



وهناك من انتظر كثيراً، ثم بعد أن حصل أخيراً على ما أفنى عمره في انتظاره اكتشف متحسراً بعد فوات الأوان أن الأمر لم يكن يستحق كل تلك اللهفة..أبداً.

الانتظار ليس حدثاً وإنما هو انتظار لحدث مستقبلي غير مؤكد، ومن المؤسف أن يضيع العمر ونحن ننتظر الحدث عِوضاً على أن نعيشه، في الحياة أمور أخرى حصلت حقاً ومن الجميل أن نعيشها قليلاً بدل أن ننتظر غيرها كي يحصل ثم ننتظر مابعده.


صفت السماء وبدأ المارون في الشارع بإغلاق مظلاتهم، فانفضت جلستنا العفوية وذهبت كل واحدة منا في طريق إلى حيث تسكن، كلهن مضين بما تحمل أضلعهن من أحلام ينتظرن تحقيقها..

جريدة الراية-  الإثنين16/4/2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق