الاثنين، 9 أبريل 2012

فجعلناهم أحاديث

كانت تشتكي كثيرًا منه، رأت في اهتمامه بها إزعاجًا وفي ثقته (التي منحتها حيزًا مريحًا من الحرية) قلة غيرة! كان هاتفها يرن أمامي فلا ترد رغم استعطافي لها بل تقول: "دعيه يتصل ولاتشغلي بالك.. إنه زوجي يسأل عني وكأني سأطير عنه.. انظري إلى رسائل الحب التي يرسلها.. يا لتفرغه!"، لطالما ضحِكَت بلامبالاة على ذوقه المتواضع في الهدايا، وكثيرًا ما كانت ترفض مبادراته للخروج معًا، لم تتزين له أبدًا رغم علمها أنه كان يتمنى ذلك، وكان هو رغم كل شيء متمسكًا بها، حادثتني بعد فترة انقطاع وإذا بها لاتزال تتذمر وتندب حظها، ولكن هذه المرة بسبب انشغاله الذي أصبحت تراه إهمالاً وقوانينه التي تراها قيودًا من التحكم والشك، أصبحت تشكو عدم اتصاله ليسأل عن حالها وتقصيره في إهدائها أي شيء وعدم مبادراته للخروج سويًا، ورغم أنها حاولت إصلاح نفسها إلا أنه لم يعد متمسكًا بها.

لقد تكبّرت على النعمة العظيمة التي كانت لديها، لم تحمد الله على ذلك الزوج المحب الذي حاول إسعادها بشتى الطرق، هاهو الآن يمنعها من زيارة الناس بعد أن كان يومًا ينتظرها بكل الحب عند بيوت صديقاتها وهي تتأخر بأنانية عمياء ولاتلق بالاً لكونه وحيدًا في سيارته بعد عناء يوم عمل طويل، لقد آثرت إلا أن تخسره وتقسّي قلبه عليها مع مرور الأيام، لم تنكر فضله فحسب بل لطالما تذمرت من مثاليته التي تتمناها الكثيرات، واليوم تتساءل باستغراب : أي عينٍ أصابته..أي سحرٍ أعماه..ما الذي غيّره؟ وددت لو أقول لها : أنتِ.

تذكرني أمثال هذه المواقف بقصة قوم سبأ المذكورة في القرآن، حيث كان في اليمن قرية أنعم الله عليها بخيرات عظيمة من مياه وزروع، بل إن الثمار كانت تتساقط على الناس دون مجهود يذكر، تمتعت تلك القرية بالأمان وسهولة التنقل والسفر منها، ولكن أهلها لم يحمدوا الله على نعمة الحياة المريحة وإنما تذمروا من هذا الخير العظيم فدعوا على أنفسهم بأن تصعب عليهم الأسفار (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) آية 19 سورة سبأ، فسلط الله عليهم السيل بكفرهم بالنعم، واستبدل ثمارهم الشهية بأخرى شائكة وجافة لاتكاد تسد الرمق، وأصبحوا اليوم أحاديث يتناقلها الرواة بعد أن كانوا أهل حضارة عظيمة يشار إليها بالبنان.

إن من سوء الأدب مع الرازق سبحانه ألانقدّر قيمة الخير الذي منحنا إياه، وأرى أن من صور الجحود بالنعم كذلك أن نتذمر من الأمور التافهة رغم أن الله رزقنا بما هو أهم ، لقد أصبح انتقاد التوافه مقبولاً بين الناس وسريع التداول والانتشار رغم أنه يشيع أجواء من السلبية والقنوط ويمنعنا من الاستمتاع بالحياة بل ويشغلنا عن إصلاح الأمور الهامة حقًا؛ بما في ذلك إصلاح أنفسنا.

على صعيد أوسع وأخطر ولا يخفى على أحد فإن من أوجه الكفر بالنعم استباحة المحرمات، إن البلد التي تستغل خيراتها لنشر المفاسد كفرت بأنعم الله، والشعوب التي تتذمر وتبذر بدل أن تشكر الله على ما تتمتع به من ثروات وأمن وأمان كفرت بأنعم الله كذلك، وقد نسب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:

إذا كنت في نعمة فارعها
               فإن الذنوب تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد
              فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت
             فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى
           لتبصر آثار من قد ظلم

جريدة الراية - الإثنين9/4/2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق