الأحد، 1 يناير 2012

فن الاستعداد للموت

كثيراً ماتستهويني الكتب والأفلام الأجنبية التي تتحدث عن أشخاص قيل لهم بأن أيامهم معدودة بعد تشخيصهم بأمراض ميؤوس من علاجها طبياً، العمر بيد الله وحده بلاشك؛ ولكن مايشدني في هذه القصص هو تغير نظرة الأشخاص للحياة، حيث يصلون لنوع من الرضوخ للواقع ويبدأون بالتصرف على أساس هذا التقبّل في استغلال الوقت وتصفية الحسابات العالقة، يصبح البعض أكثر إيجابية فيرون الجمال كما لم يروه من قبل، تصغر في أعينهم مشاكل الحياة اليومية بل وربما يفتتنون بوجودها كجزء من الحياة النابضة، أرى في مثل هذه القصص تذكيراً لي شخصياً بعمق نظرة المودع للحياة وكلنا مودعون لها،وبيدنا أن نرتقي بتفكيرنا لندرك لب الأشياء لا القشور الفانية.

لاأتحدث هنا عن الاستعداد للموت بالعبادات المختلفة فالكل على بينة من ذلك، ولكن أقصد الاستعداد بمعناه النفسي، ومما رسخ في ذاكرتي بهذا الخصوص فيلم اسمه (العطلة الأخيرة) تدور قصته حول موظفة مبيعات خجولة تم اكتشاف إصابتها بمرض خطير قيل لها إن حياتها على إثره أصبحت مجرد أيام معدودة، الشاهد أنها قررت أن تستمتع بحياتها فلا تضيّع الوقت في المجاملات والمقدمات بل ستصدح بقول الحقيقة في ذكر أي ظلم واقع دون أن تخشى في الحق لومة لائم ، في آخر القصة كشف الفيلم عن تحول لافت في أحداثها حيث إن تشخيص إصابتها بالمرض الخطير كان خاطئاً، لتعود بعدها للحياة مستفيدة من الخبرة التي أكسبها إياها الإقدام في تحقيق الأمنيات، وبدأت تجارتها الخاصة لتعمل في أمر تحبه بدل أن يضيع العمر في التعاسة التي كانت تعيشها في وظيفتها السابقة تحت رحمة مدير متسلط.

ومن الأمثلة على المواد الأدبية المميزة بهذا الخصوص كتاب (المحاضرة الأخيرة) لراندي بوتش الأستاذ بجامعة كارنيجي ميلون والذي تحدث فيه عن إعداده لمحاضرته الأخيرة التي ألقاها بعد إصابته بسرطان البنكرياس (ثم مات بعدها بفترة قصيرة عن عمر 47 عاما) ، تم تصوير هذه المحاضرة ونشرتها وسائل الإعلام المتعددة فكان لها صدى واسع و أحدثت ضجة إعلامية كبيرة ؛ ذكرني كلامه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لايقوم حتى يغرسها فليفعل) رواه أحمد، محاضرته الأخيرة تحدثت عن روعة تحقيق أحلام الطفولة، قدم الكثير من النصائح القيمة لمن أراد النجاح في حياته وعلاقاته، لقد حرص بحق على الاستمرار في العطاء حتى آخر لحظة ، لم يبد ساخطاً ولا حزيناً وإنما جسد الرضا بالقدر في أسمى صوره وهو الذي مات على غير الإسلام.

ولأن الله سبحانه قد حجب عنا توقيت النهاية ؛ فإن ما انطبق على من سبق ذكرهم له أن ينطبق من باب أولى علينا نحن المؤمنين بكتابه لأننا نعلم أن الغيب بيد الله وحده ونعلم أن ساعة الموت قد كُتبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الخلائق بخمسين ألف سنة.

وبالإمكان تطبيق فكرة التأهب لمغادرة الحياة على حياتنا اليومية بكل أبعادها، إن كان ثمة أمراً لن تفعله إن كنت على وشك الموت فإن من الأحرى أن لاتفعله بتاتاً، فالرسالة النصية التي لن ترسلها إن كنت تعلم أنها قد تكون رسالتك الأخيرة في هواتفهم النقالة لاترسلها، والمكان الذي لن تذهب له إن اعتبر موتك أثناء الذهاب له سوءاً في الخاتمة فلاتذهب له، ولأن الآخرين كذلك قد يرحلوا في أي لحظة، فهم كذلك تنطبق عليهم هذه النظرية، لطالما قالت لي أمي كلما شكوت لها شخصاً أزعجني في المدرسة : "تخيلي لو أنك ذهبت للمدرسة في اليوم التالي وقيل لك أنه مات، ألن تشعري بالسوء لأنك لم تحسني معاملته في آخر يوم له؟".

هل يجب أن نتأخر في إدراك كل تلك الأمور حتى نموت أو يموتوا؟
لا.
جريدة الراية - الإثنين2/1/2012
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=614045&version=1&template_id=168&parent_id=167

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق