الأحد، 11 ديسمبر 2011

وإن كان مُحِقاً

نحتاج أحياناً عندما يحتد الجدال أن نتوقف عن المحاولات المستميتة لإثبات أننا على حق حتى وإن كان الشرع في صفّنا، ونتحلى عِوَضاً عن ذلك بصفة "التطنيش"، وهي كلمة لم أجد لها من الناحية اللغوية أصلاً عربياً فصيحاً ولكن اللهجات العاميّة تستخدمها بمعنى الإعراض، فتجعل صفة عدم الاكتراث بحد ذاتها ردة فعل، وذلك بالتقليل من أهمية الأمور العابرة تجنباً لعواقبها التي منها هدم البيوت وإفساد العلاقات.

قال ربنا سبحانه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) سورة الأعراف آية 199، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان محقاً..) رواه أبو داوود وحسنه الألباني ، فعلام يفقد أحدنا أعصابه بالنقاشات العقيمة مع أصحاب النفس الطويل في الجدال؟ تضيع الأوقات وتتنافر النفوس ويخسر الإنسان مالم يكن ليخسره لو أنه التزم الصمت وترفّع عن الاستمرار في الانحدار بالنقاش إلى مستويات دنيا.

ما يسمى بالتطنيش لا يعني بالضرورة اللامبالاة بحد ذاتها، قد يعني أننا نحب أنفسنا لدرجة أننا حريصون على راحة بالنا فلا نمنح أحداً صلاحية استفزازنا، ونحرص على أوقاتنا فلا نضيعها مع من لا قيمة للوقت لديه، بل ونحافظ على صحتنا فنتفادى ارتفاع ضغط الدم وتهيج القولون العصبي وغيرهما.

إن من يتمتع بهذا الفن ليس سلبياً كما قد يصفه البعض ولكنه مسالم وحكيم، يختار بعناية المعارك التي تستحق الخوض فيها ،عند تحضيري لكتابة هذا المقال حاورت عدداً ممن يتمتع بذلك الفن واكتشفت أنهم أذكى بكثير مما يتصوره الآخرون، ذلك أنهم وصلوا لمرحلة من الاستقلالية جعلتهم واثقين من وجهات نظرهم لدرجة أنهم لا يشعرون بالحاجة الملحة ليثبتوا للآخرين أنهم على حق، يكفيهم أنهم يعلمون ذلك ولا قيمة حقيقية لرأي الآخر هنا فهو حر في آرائه وهم كذلك، وعند بعضهم يكون الآخر شخصاً يحبونه ولذلك اختاروا أن يصمتوا عند دفاعه عن الأمور التي يعارضونها، حيث تُسعدهم رؤيته وهو يعيش دور المنتصر ويستمتع به لسويعات، فالأمر لا يستحق التوقف عنده في كل مرة لا سيما إن كان في ذلك الشخص صفات أخرى رائعة ولا يريدون خسارته بسبب أمور عابرة أو آراء قد يرونها شاذة أو مزعجة.

القدرة على التغاضي أسهل مما يتصور البعض، تَعَلَّم أن تبلع الكلمة قبل أن تقولها وستفاجأ بأنها لم تصبك بعسر الهضم، هي مسألة تعوّد وقدرة مكتسبة على تمالك الأعصاب تتأتّى بالمِران، تحدّ نفسك وقرر أن تتفضل بمنحهم شرف أن يكونوا أصحاب الكلمة الأخيرة، فليعلقوا هذا الحدث العالمي وساماً على صدورهم وليتباهوا به أمام أنفسهم في المرآة فأنت قد تصدقت به عليهم، كن على توافق داخلي مع نفسك بدل أن تحاول الوصول للتوافق مع من حولك وستفاجأ بأنك حققت الأمرين (بالتطنيش).

الغريب أن البعض يحتد بينهم النقاش على أمور تافهة، فتراهم يختلفون على لون سيارة مثلاً، ليس لأن الموضوع هام، ولكن لأن الكرامة دخلت في المعادلة، فلا يرض أحدهم أن يقال عنه إنه لا يرى جيداً أو أنه أصيب - مجازاً - بالعمى ،رغم أن الأعمى في هذه الحالة هو من عميت بصيرته فلم يَهدِه تفكيره إلى الترفع عن هذه النقاشات التي لا ينبغي أن تكون معياراً لتحديد قيمته أمام الآخرين.

فلتكن السيارة الكحلية سوداء، وليكن حكم المباراة مرتشياً، بل ولتكن الخرطوم عاصمة للصين! فلن يرسم مجلس العلماء الذي نوقشت فيه هذه الأمور خريطة العالم ولن يحدد النقاش كيفية سير الحياة، لست غاليليو الذي شَعَر أن على عاتقه إيصال حقيقة دوران الأرض للبشرية، وليس معارضوك رجال الكنيسة الذين حاربوه، ولا رسالتك التي تريد إيصالها هي بأهمية رسالته حيث إن جملة "ومع ذلك فهي تدور" كلفته أن يسجن حتى الموت ولم تعتذر له الكنيسة إلا بعد موته بسنوات طوال، فإن كان ما ستقوله بأهمية نظريات غاليليو ( في ذلك الوقت ) وسيُقَدّم للبشرية خدمة تجعل ماستدفعه من صحتك وراحة بالك ثمناً يستحق المحاولة فسنّ حبالك الصوتيه وأقدم، (وإلا فطنش).

صحيفة الراية القطرية- الإثنين12/12/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=609510&version=1&template_id=168&parent_id=167

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق