الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

.. وأمسكت بالقلم

ما أجمل أن تتخذ بادرة العودة فتمارس أمراً تحبه بعد فترة انقطاع، هي خطوة أولى قد تستثقلها النفس ولكن ما إن تتم حتى تتلوها خطوات أخرى متتابعة سلسة، اتخاذ قرار العودة قد يستغرق الشخص أعواماً طوالا تكون فيها العودة فكرة لذيذة تداعب خياله كلما خنقته مشاغل الحياة، ولكنه يؤجلها لأسباب منها التكاسل أو خشية الفشل أو ضيق الوقت بسبب سوء إدارته.

كثير من الناس يترك هواياته بعد أن تشغله الحياة بالعمل أو التجارة أو الزواج أو غيره، إنك حينما تمارس أمراً تحبه تكون "أنت"، لا تكون فلاناً الأب، ولا فلاناً الزوج، ولا فلاناً الموظف بالهيئة الفلانية، لست فلاناً ابن العائلة الفلانية، ولا فلاناً ذا المستوى المادي الفلاني، تتحرر من جميع القيود والمسميات، لتكون أنت أنت، مستجيباً لصوتك الداخلي الجميل.

إنه الوقت الذي تكون فيه ممسكاً بريشة ألوان وتفرغ في اللوحة بعضاً من خلجات نفسك، أو مراقباً للعالم من وراء عدسة كاميرا ترصد جمالاً لا ينتبه له الآخرون، أو ممسكاً بصنارة صيد متأملاً في الأفق على مد المحيط ترتقب صيداً مجهولاً من عالم لا تراه فوق السطح، أو جالساً بين مقاعد ملعب لكرة القدم متفاعلاً مع حركات اللاعبين و محاطاً بانفعالات المشجعين وصفارات الحكام، أو مبتكراً لطبخة ما تستثير حاسة التذوق لدى من معك وتثير إعجابهم بمهارتك، أو صانعاً لسيارة عتيقة بتركيب قطع من سيارات الماضي لتبتكر تحفة فنية من مركبات الزمن الجميل، هو ذلك الوقت الذي ندين به لأنفسنا، الذي ننفصل فيه عن تحديات الواقع وتراكمات الماضي، الذي ننسى فيه الأهل الذين تنكروا أو الأصدقاء الذين ابتعدوا أو الأحبة الذين تغيروا.

يستهين الكثيرون بأهمية قضاء وقت يمارس فيه الإنسان شيئاً يحبه أو يجيده، سواءً بهدف الترفيه أو ربما لكسب مصدر دخل إضافي، تتضاءل همومنا حينما نشغل مساحات الخاطر بمهارات كتلك، لا يبدو الواقع بالسوء ذاته، ولا العدو بالخبث ذاته، ولا الشريك بالتقصير ذاته، يطول بالنا أكثر في مواجهة تحديات تربية الأبناء ومشاكل الخدم، ويتسع صدرنا أكثر لاحتمال مضايقات زملاء العمل، يكون الهم جزءاً من حياتنا بدلاً من أن تكون حياتنا جزءاً من الهم.

كم من خيانة زوجية كان من الممكن تفاديها لو أن الزوج انشغل عن المرأة الأخرى بصقل هواية ما، وكم ضاقت ذات اليد بأناس كان يمكنهم أن يرتقوا بمستواهم المعيشي بكسب رزقهم من مهارة أوجد الله جذورها فيهم لكنهم ما رعوها حق رعايتها بل دفنوها في دواخلهم حتى كادت أن تختفي، بل كم من أمراض نفسية كان يمكن أن يتفاداها الشخص لو أنه أشغل باله باهتمام صحي في إنجاز أمر يحبه فتتحقق له ثقته بنفسه وإحساسه بكفاءته، وكم من زوجة اختارت الطلاق لا لشيء سوى أن مشاكل الحياة الزوجية كانت في عينيها أكبر من حجمها الحقيقي لأنها لم تتمكن من التفكير بعقلانية إذ لم تخرج نفسها من الجو العام بممارسة أمر تحبه يبعث في داخلها الأمل بالتغيير.

هو مقال أول، مصافحة أولى ودعوة لنفض الغبار عن ذواتنا، للعودة لأمر كان، لعل الزمن الذي قضيناه بعيداً عن أنفسنا قد صقل بعضاً من أرواحنا، لنعود لممارسة تلك المهارة بحكمة أكبر وصبر أجمل حتى نسترجع تلك القدرة الجميلة بعد طول انقطاع، وفي كثير من الحالات كانت العودة أجمل، كحال المرأة التي كانت تهوى الطبخ ثم انشغلت عنه أعواماً لتعود بعدها بإشراق أكبر فتفتتح مطعمها الخاص وتمارس المهنة احترافاً، العودة أجمل لأن حافزها أعمق، أتت من باب الضرورة و لم تأتِ ترفيهاً فحسب، أتت كاستراتيجية للبقاء، للمحافظة على الصحة النفسية للشخص حتى يظل متزناً في مواجهة أمواج الحياة المتلاطمة، ما أجمل العودة وهنيئاً للعائدين.



جريدة الراية  القطرية - الإثنين14/11/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=604159&version=1&template_id=168&parent_id=167

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق