الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

اللبن المسكوب أم الماء المسكوب؟



ندور أحياناً في دوائر مفرغة نظل فيها نبكي على (اللبن المسكوب)، يتوقف الزمن عند البعض مع خيبة أمل يرفض بعدها المفاوضة حول وضعه، فيترك الجمل بما حمل عوضاً عن إصلاح ما يمكن إصلاحه، يخسر بذلك أموراً كثيرة أبرزها إيمانه الذي يضعف جراء استسلامه للإحباط ولومه للآخرين والتحجج بأعذار تلو أعذار، يتعذر تارة بالظروف، وتارة بالسن، وتارة بسلطة غيره عليه، والبعض يتحجج حتى بجيناته، فلا يقاوم بل يستسلم بالكلية.

ربما حرم شخص نفسه من السعادة مع شريك حياة رائع ليتفرغ للتحسرعلى حبيب الأمس الذي خذله، وأخرى تترك نفسها فريسة القهر والغضب والغيرة بسبب زوجها الذي تزوج بأخرى، وآخر يرفض مواجهة مشكلة وزنه الزائد بجدية ويفضل التقوقع على ذاته ثم لا يكتفي بالاستسلام لوضعه بل يمعن في إيذاء نفسه بالانغماس أكثر فأكثر في التهام كل شيء دون حساب فهو إما رشيق ذو وزن مثالي وإما سمين لدرجة مرضية، إنهم لا يؤمنون بالحلول الوسط، التي ربما تكون هي سر السعادة الحقيقية.

إن الحلول الوسط (فن) بحاجة للمتابعة والتدريب، وكلما ازداد إتقانك لهذا الفن استطعت أن تبدع في تسيير أمورك بشكل أفضل، من الأمثلة الرائعة على ذلك ما ورد في كتاب (حدائق الملك) للمغربية فاطمة أوفقير التي قام محمد الخامس بسجنها هي وأطفالها وخادمتيها سنوات طوالا في عدد من الزنزانات المتقاربة دون أن يسمح لهم برؤية بعضهم البعض حيث كانت المواعيد اليومية لخروج كل منهم من الزنزانة تختلف عن الآخر، فما كان لديها من حيلة لترى أطفالها إن هم مروا أمام زنزانتها إلا أن تسكب بعض الماء على أرض الزنزانة قرب فتحة الباب السفلى وتمعن النظر في (الماء المسكوب) آملة أن يمر أحد أبنائها فترى انعكاسه على الماء، وكان لها ذلك، إن تمتعها بفن الحلول الوسط حال بينها وبين الجنون عشرين عاماً سجنت فيها في عدد من السجون والإقامات الجبرية، ظلت فيها تحتال بطرق عجيبة لتستطيع اختراع وسائل لقضاء الحاجة ووسائل لحفظ الطعام ووسائل للتواصل مع أبنائها وتعليمهم! بل وحتى وسائل للاستمتاع بالوقت تحليقاً بالخيال، وفي النهاية استطاعت هي ومن معها الهرب من السجن المرعب بحفر نفق بوسائل بدائية جداً وإخفاء آثاره بذكاء مذهل، ولم يصدق أحد أنهم تمكنوا من الفرار بل أصر البعض جازماً أنهم استعانوا بالجن.

نحتاج أن نتعلم ونعلم أبناءنا فن الحلول الوسط، لا بد من وجود أرضية صلبة تقف عليها مهما كان وضعك، لا بد من المساومة كي تستطيع إكمال مشوار الحياة بسلام داخلي ونجاح على أرض الواقع مهما كان حجمه بسيطاً، العبرة ليست بالإنجاز بحد ذاته وإنما بسعيك المستميت له وإصرارك على استحقاقك الأفضل، استمع لذلك الصوت الداخلي المتألم الذي يحاول انتشالك من الاستسلام للإحباط، إن سر انزعاجك الشديد من وضعك هو إيمان فطري بأنك لا تستحقه، وبالفعل كلنا يستحق الخير، استغل ذلك الصوت الهامس واجعله يعلو في داخلك، أنصت له جيداً، هو يقول إن هذا الوضع لا يلائمك، إنك أفضل من هذا، وهذا يعني أنك تستطيع الحصول على الأفضل الذي تستحق، ليس بالضرورة أن يكون الأفضل شيئا تحدده بمزاجك، هو أفضل من الآن وهذا ما يهم في الوقت الحالي.

فيا من يكره في زوجته خلقاً ما، تعامل مع الوضع بحكمة وتذكر أنك إن كرهت منها خلقاً رضيت منها آخر، يا من "طردته" الجامعة أتعجز عن بعض الدورات هنا وهناك تطور بها من مهاراتك؟ فإن لم يكن البكالوريوس من نصيبك فلا تحرم نفسك مما هو دونه، يا من لم يرزق الذرية ما رأيك في الحل الوسط الذي يشبع رغبتك في وجود الأطفال بكفالة يتيم أو التطوع لدى مؤسسات تعنى بالأطفال؟ بل يا من أردت أن تصبح رائد فضاء ألا تستطيع الآن اقتناء تلسكوب يقربك من النجوم لتعيش معها سويعات يومية تشبع فيها رغبتك في السباحة بين المجرات؟ إنها (الحلول الوسط)، تلك المساحة الرمادية الفسيحة الرائعة الموجودة بين ضيق سواد الإحباط وسعة بياض الأحلام.



جريدة الراية القطرية الإثنين21/11/2011
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=605490&version=1&template_id=168&parent_id=167

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق