الأحد، 4 ديسمبر 2011

أعطني سبباً !

أعرف امرأة تزوجت في سن صغيرة من رجل حسن السمعة طيب المعشر، أحبته وأحسنت له كما أحسن لها، عاشا بسعادة واستقرار عدة أشهر بلا خلافات من أي نوع، أوصلها بسيارته يومًا إلى منزل أهلها لتزورهم كالعادة على أن يأتي لاحقًا فيعيدها إلى عش الزوجية الهانئ ، لكنه لم يعد، ولم يتصل، لماذا لم يعد؟ هل تعرض لخطر ما؟ سيناريوهات مرعبة كثيرة تدور في البال في هذه اللحظات، ربما تعرض لحادث سيارة ، بل ربما لم يعد حيًا، أي أسباب غير تلك قد تمنعه من المجيء أو الاتصال؟ بعد يومين وصلتها ورقة الطلاق، ورحل.

تذكرني قصتها المبتورة بقصيدة الشاعرالكبيرعبدالرحمن بن مساعد (رحل) التي يقول في آخرها:

أقسى مافي اللي بيجي.. كل الحكي والأسئلة:"
متى رحل؟ وليه رحل؟
ولّا تعابير الأسى على الوجوه الصامتهْ..
ولّا العيون الشامتهْ..
ولّا العذول اللي يقول: اللي حصل ماهو غريب..
واللي يقول: ماكان يستاهل يكون.. أغلى حبيب!
ياسيدي.. أقسى مافي اللي بيجي إني أقول: هذا كل اللي حصل.. رحل! "


إن أكثر المواقف جرحًا للكرامة هي تلك التي لا يمنحوننا فيها شرف تفسير النهاية، فتظل القصة معلقة كأنها لم تنتهِ رغم أنها انتهت ربما حتى قبل أن تبدأ، هي تلك الأشياء المؤلمة التي تقضّ المضجع بكلمة "ليش؟"، سؤال وجيه بخلوا علينا بإجابته واكتفوا بأن يعرفوها هم، ثم مضوا في حياتهم غير آبهين بالخراب الذي خلّفوه.

أيًا كان السبب الذي جعلهم يسوِّغوا لأنفسهم تعليق الأمر فهو ظلم صريح، إن وجود السبب (مهما بلغت به التفاهة) لهو أرحم من غياب السبب بالكلية، السبب الظالم مهما كان موجعًا يؤدي دور إنهاء القصة، يسدل الستار على ذلك الفصل من حياة الإنسان، إن تفسير الأمر سيمنحنا صلاحية البكاء على أمر نعرف ماهيته، كي يبدأ الجرح بالنزف بشكل طبيعي ليتحقق له الالتئام بعد ذلك بشكل طبيعي أيضًا، أما غياب السبب فيفتح آفاق التأويل على مصراعيها، يفقد الشخص ثقته بنفسه مما ينعكس على صحته العاطفية فلا يستطيع إكمال مشوار الحياة باستقرار نفسي، كل المشاكل التي سيتعرض لها فيما بعد ستؤول في النهاية لذلك السبب الذي حرم من معرفته، وتظل أموره معلقة بينما ينعم الشخص الذي علقها بحياة هانئة أبعد ما تكون عن الحيرة التي يعيشها الضحية.

قد تكون الضحية طفلة تزوج أبوها امرأة أخرى وانشغل عنها فلم تعد تراه، قد يكون رجلاً هجرته أمه وليدًا وأهملت حتى السؤال عنه، ، قد يكون موظفًا جهل سبب التغير المفاجئ في معاملة مديره له، وكم من الأصدقاء المقربين من انقطعت علاقاتهم بذات السيناريو البغيض: طرف ينسحب بلا تبرير ليدع الطرف الآخر فريسة الغضب والتساؤل المرير، صعب جدًا أن يتمكن الإنسان من مسامحة شخص تركه دون سبب، ربما يسامح من تركه مفتريًا عليه، ولكن على ماذا سيسامح من لم يعطِه سببًا يسامحه عليه؟

إن بعض الأسباب بها من العار ما يمنع الشخص من كشفها، أو ربما بها من التجريح ما يمنع الشخص من إبدائها إشفاقًا على الآخر، فمن رحل (أو تغيّر) ليس شريرًا بالضرورة، ولكنه لايتمتع بالذكاء العاطفي، ربما طلق الرجل زوجته مثلاً لإصابته بمرض يرفض التصريح به و يخشى أن يعديها، ربما ترك الصديق صديقه بأمر من أبيه الذي لن يرضى عنه إلا بتركه، وغيرها من الأسباب التي يمكن تفهّمها ولكن الشخص يأبى التصريح بها، وربما من حقه الاحتفاظ بأمور لنفسه، ولكن أن يفتح الباب للتأويلات المزعجة فهذا ما لا يحق له، يجب عليه أن يجد طريقة توفر على صاحبه الألم مهما كانت، إن الهروب من التبرير يعد في نظري جريمة في حق المبرر له، وينبغي على الشخص أن يتصف بالشجاعة الكافية لتحمل مسؤولية قراره وتبرير موقفه ولايكتفي بالاختفاء كأن شيئًا لم يكن.

أعطِهم سببًا ثم امضِ، أي سبب، أرى أن (وجود سبب وهمي ) أفضل من (غياب السبب الحقيقي) ، فالنهاية الوهمية ليست بأقل قيمة من النهاية الصادقة ما لم يكتشف زيفها، فإن كان السبب من السوء بمكان فوجود سبب زائف سيخفف من وطأة الأمر ويؤدي مهمة إنهاء الحكاية مهما كان الأداء رديئًا.

إليكم أيها الرائعون الذين لم يجدوا في أنفسهم ما ينفّر؛ فحاولوا مرارًا تبرير ما امتنع عن تبريره من تركهم (أو تغيّر) فجأة، وحاولوا عنوة تجريد الطرف الآخر من تحمّل مسؤولية قراراته، وحاولوا بكل ما أوتوا من منطق تصديق أنه واقع تحت تأثير الحسد أو الشعوذة.. كان هذا المقال.

جريدة الراية القطرية - الإثنين5/12/2011 م
http://www.raya.com/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=608158&version=1&template_id=168&parent_id=167

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق