لازلت أتذكر صديقتي التي مات والداها وهي صغيرة السن، كانت تتغيب عن المدرسة في يوم
الأم هرباً من الطابور الصباحي ومايقدمه من مواد مؤثرة عن قيمة الأم، وأتذكر من
كن يبكين من الصغيرات في طابور الصباح في ذلك اليوم ممن حرمن من أمهاتهن بالموت أو
غيره، وأتساءل اليوم ألم تنتبه المدرسات إلى هذه النماذج الإنسانية الغضة التي تعد
جزءاً من الكيان المدرسي والتي ماكان يجب صدمها بتلك المواد الفنية المكثفة في يوم
واحد كل عام؟ وددت لو قام أحدهم باتخاذ قرار يمنع مثل هذه الاحتفالات مراعاة لمشاعر
الأطفال الذين لم يفهموا الحياة بعد وربما لم يستوعبوا بعد حقيقة اختلافهم عن
أقرانهم، يقول وليام شكسبير "إذا تألمت لألم إنسان فأنت نبيل، أما إذا شاركت في
علاجه فأنت عظيم".
التعاطف فن يحتاج منّا أن نتوحد قليلاً مع عذابات الآخرين،
أن نتخلى عن أعيننا و نرى ما حولنا بأعينهم قليلاً، ولكن البعض لايرى إلا نفسه
حقاً، قالت لي إحداهن ممن لم يكتب لها الإنجاب وتقدم بها العمر إنها اتصلت بقريبة
لها صغيرة في السن تبارك لها خبر الحمل الثاني (بعد حملها السابق بتوأم) فردت عليها
تلك بضيق: "علام تباركين لي! لقد حزنت حقاً من هذا الخبر، وددت لو أنني لم أحمل
بهذه السرعة بعد ولادتي السابقة حيث كانت لدي نية للذهاب للعيادة مرة أخرى الأسبوع
القادم كي أنجب توأماً آخر بالتدخل الطبي! أما الآن فقد لا أنجب إلا طفلاً واحداً
فقط" تقول هذا لامرأة تعلم بأن العمر قد تقدم بها بعد أن باءت كل محاولات الإنجاب
لديها بالفشل.
يفتقد الكثيرون للحس الإنساني في حياتهم اليومية فيهمشون
مشاعر الآخرين بدم بارد، كالمرأة الجميلة التي تتذمر من حبة صغيرة ظهرت في وجهها
أمام أخرى لاحظَّ لها في الجمال، وكالرشيقة التي تنعت نفسها بالسمنة وتشير إلى
انتفاخ بسيط في بطنها لايكاد يُرى أمام أخرى سمينة حقاً، وكالشاب الذي يتذمر من
تأخر شحن سيارته الفارهة أمام شخص لايمتلك إلا سيارة متواضعة يشاركه فيها أخوه،
وكالذي يتحدث بحماس عن تفاصيل رحلاته الممتعة حول العالم أمام آخر لم تسمح له
الظروف برؤية أقرب البلدان.
يضرب لنا الإسلام العظيم أروع الأمثلة في أهمية مراعاة
مشاعر الآخرين على اختلاف أوضاعهم، بل حتى في صلاة الجماعة لاينبغي على الإمام
الإطالة مراعاة لمن خلفه، فعن عثمانَ بنِ أبي العاصِ أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : " أمَّ قومَكَ ، فمنْ أمَّ قومَه فليُخَفَّفْ؛ فإن فيهم الكبيرَ وإن فيهم
المريضَ وإن فيهم الضعيفَ وإن فيهم ذا الحاجة ، وإذا صلى أحدُكم وحدَه فليُصَلِّ
كيفَ شاءَ " (مسلم).
ضع نفسك في مكان الشخص الآخر، لاتهمش أحزانه ولا تدس على
مشاعره، امنحه شرف الاعتراف بوضعه فهذا وحده كاف أحياناً، يقول الدكتور إبراهيم
الفقي رحمه الله: لاتتحدث عن أموالك أمام فقير، ولا عن صحتك أمام عليل، ولا عن قوتك
أمام ضعيف، ولا عن سعادتك أمام تعيس، ولا عن حريتك أمام سجين، ولا عن أولادك أمام
عقيم، ولاعن والدك أمام يتيم، فجراحهم لاتحتمل المزيد، زِنْ كلامك في كل أمور
حياتك، واجعل مراعاة شعور الآخرين جزءاً من شخصيتك، حتى لايأتي يوم تجد نفسك فيه
وحيداً مع جُرحك، فلا ترقص على جراح الآخرين، كي لايأتي يوم تجد فيه من يرقص على
جرحك.
جريدة الراية - يوم الإثنين 14/5/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق